ثم أمر نبيه صلىاللهعليهوسلم بالاعتراف بالتقصير عن علم الغيب ، الذي اختص الله به ؛ كعلم الساعة وغيرها ، فقال :
(قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرًّا إِلاَّ ما شاءَ اللهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (١٨٨))
قلت : «وما مسنى السوء» : عطف على «استكثرت» ، أي : لو علمت الغيب لاستكثرت الخير واحترست من السوء ، أو استئناف ، فيوقف على ما قبله ، ويراد حينئذ بالسوء : الجنون ، والأول أحسن ؛ لاتصاله بما قبله ، و (لقوم) : يجوز أن يتعلق ببشير ونذير ، أي : أبشر المؤمنين وأنذرهم ، وخصهم بالبشارة والنذارة لانتفاعهم بهما ، ويجوز أن يتعلق بالبشارة وحدها ، فيوقف على (نذير) ، ويكون المتعلق بنذير محذوف ، أي : نذير للكافرين ، والأول أحسن. قاله ابن جزى.
يقول الحق جل جلاله : (قُلْ) لهم يا محمد : أنا (لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرًّا) أي : لا أجلب لها نفعا ولا أدفع عنها ضررا ، (إِلَّا ما شاءَ اللهُ) من ذلك ، فيعلمنى به ، ويوقفنى عليه ، وهو إظهار للعبودية والتبري من ادعاء العلم بالغيوب ، (وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ) أي : لو كنت أعلم ما يستقبلنى من الأمور المغيبة ؛ كشدائد الزمان وأهواله ، لاستعددت له قبل نزوله باستكثار الخير والاحتراس من الشر ، حتى لا يمسنى سوء ، (إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ) أي : ما أنا إلا عبد مرسل بالإنذار والبشارة (لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) ؛ فإنهم المنتفعون بهما ، أو نذير لمن خالفنى بالعذاب الأليم ، وبشير لمن تبعني بالنعيم المقيم.
الإشارة : العبودية محل الجهل وسائر النقائص ، والربوبية محل العلم وسائر الكمالات ، فمن آداب العبد أن يعرف قدره ، ولا يتعدى طوره ، فإن ورد عليه شيء من الكمالات فهو وارد من الله عليه ، وإن ورد عليه شىء من النقائص فهو أصله ومحله ، فلا يستوحش منه ، وكان شيخنا يقول : إن علمنا فمن ربنا ، وإن جهلنا فمن أصلنا وفصلنا. أو كلام هذا معناه ، فالاستشراف إلى الاطلاع على علم الغيوب من أكبر الفضول ، وموجب للمقت من علام الغيوب. والله تعالى أعلم.
ثم ذكر أصل النشأة ، ليدل على نقص العبد وجهله ، فقال :
(هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها لِيَسْكُنَ إِلَيْها فَلَمَّا تَغَشَّاها حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللهَ رَبَّهُما لَئِنْ آتَيْتَنا صالِحاً لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (١٨٩) فَلَمَّا آتاهُما صالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما فَتَعالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (١٩٠))