وهو أن يلقى فى أوهامهم أنهم على شيء ، وليسوا كذلك ، يستدرجهم فى ذلك شيئا فشيئا ، حتى يأخذهم بغتة ، كما قال تعالى : (فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ) ؛ إشارة إلى مخالفتهم وعصيانهم ، بعد ما رأوا من الشدة ، (فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ) أي : فتحنا عليهم أسباب العوافي وأبواب الرفاهية ، (حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا) من الحظوظ الدنيوية ، ولم يشكروا عليها برجوعهم منها إلينا ، (أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً) أي : فجأة ، (فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ) (١) ؛ آيسون قانطون من الرحمة. ه.
ثم ندبهم إلى التفكر ، فقال :
(أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ (١٨٤) أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (١٨٥) مَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلا هادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (١٨٦))
قلت : (وما خلق) : عطف على (ملكوت) ، و (أن عسى) : مخففة ، و (أن يكون) : مصدرية ، أو عطف على (ملكوت) أيضا.
يقول الحق جل جلاله : (أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا) فى أمر محمد صلىاللهعليهوسلم ؛ حتى يتحققوا أنه (ما بِصاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ) ؛ يعنى : نبينا محمدا صلىاللهعليهوسلم. روى أنه صلىاللهعليهوسلم لما أمر بالإنذار صعد الصّفا ، فدعاهم ، فخذا فخذا ، يحذّرهم بأس الله تعالى ، فقال قائلهم : إن صاحبكم لمجنون ، بات يصوت إلى الصباح ، فنزلت (٢).
(إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ) أي : بيّن الإنذار واضح أمره ، لا يخفى على ناظر. (أَوَلَمْ يَنْظُرُوا) (٣) نظر استدلال (فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي : فى عظمتهما وما اشتملتا عليه من العجائب ، (وَما خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ) أي : وينظروا فيما خلق الله من شىء من الأجناس التي لا يمكن حصرها ، لتدلهم على كمال قدرة صانعها ووحدة مبدعها ، وعظم شأن مالكها ومتولى أمرها ، ليظهر لهم صحة ما يدعوهم إليه.
(وَأَنْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ) أي : أو لم ينظروا أيضا فى اقتراب أجلهم وتوقع حلول الموت بهم ، فيسارعوا إلى طلب الحق ، والتوجه إلى ما ينجيهم من عذابه ، قبل مفاجأة الموت ونزول العذاب. (فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ) أي : بعد القرآن ، (يُؤْمِنُونَ) إن لم يؤمنوا به ، وهو النهاية فى البيان؟ كأنه إخبار عنهم بالطبع
__________________
(١) الآية ٤٤ من سورة الأنعام.
(٢) أخرجه الطبري فى التفسير ، (٩ / ١٣٦) بإسناد صحيح إلى قتادة.
(٣) إلى هنا ينتهى السقط الموجود فى المخطوطة الأصلية.