(وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِراطٍ) أي : طريق (تُوعِدُونَ) من أراد الإيمان بالعقوبة ، وكانوا يجلسون على الطرقات والمراصد ، يقولون لمن يريد شعيبا : إنه كذاب فلا يفتنك عن دينك ؛ ويوعدون من آمن ، وقيل : كانوا يقطعون الطريق.
(وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) أي : تصدون الناس عن طريق الله ، وهو الإيمان به وبرسوله ، وهو الذي قعدوا لأجله فى كل طريق ، وقوله : (مَنْ آمَنَ بِهِ) ؛ من أراد الإيمان به ، أو من آمن حقيقة ؛ كانوا يصدونه عن العمل ، (وَتَبْغُونَها عِوَجاً) أي : وتطلبون لطريق الله عوجا بإلقاء الشّبه فيها ، أو بوصفها للناس بأنها معوجّة. (وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلاً) عددكم وعددكم (فَكَثَّرَكُمْ) بالبركة فى النسل والمال ، (وَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ) من الأمم قبلكم ، فاعتبروا بهم.
(وَإِنْ كانَ طائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا) أي : تربصوا (حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ بَيْنَنا) أي : بين الفريقين بنصر المحقين على المبطلين ، فهو وعد للمؤمنين ووعيد للكافرين ، (وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ) ؛ إذ لا معقب لحكمه ، ولا حيف فيه.
(قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ) فى جوابه عن وعظه : (لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا) أي : ليكونن أحد الأمرين ؛ إما إخراجكم من القرية أو عودكم فى الكفر ، وشعيب عليهالسلام لم يكن فى ملتهم قط ؛ لأن الأنبياء ـ عليهمالسلام ـ لا يجوز عليهم الكفر مطلقا ، لكنهم غلّبوا الجماعة على الواحد ؛ فخوطب هو وقومه بخطابهم ، وعلى ذلك أجرى الجواب فى قوله : (قالَ أَوَلَوْ كُنَّا كارِهِينَ). قاله البيضاوي. وقال ابن عطية : وعاد : قد يكون بمعنى صار ، فلا يقتضى تقدم ذلك المحال ، قلت : ويؤيده ما فى حديث الجهنميين : «قد عادوا حمما» (١) أي : صاروا.
ثم قال شعيب عليهالسلام : (قَدِ افْتَرَيْنا عَلَى اللهِ كَذِباً إِنْ عُدْنا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللهُ مِنْها) أي : إن رجعنا إلى ملتكم بعد الخلاص منها ، فقد اختلقنا على الله الكذب ، وهذا كله فى حق قومه كما تقدم. (وَما يَكُونُ لَنا أَنْ نَعُودَ فِيها إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ رَبُّنا) خذلاننا وارتدادنا ، وفيه تسليم للإرادة المغيبة ، والعلم المحيط ، فإن القلوب بيد الله يقلبها كيف يشاء. فإن قلت : هو معصوم فلا يصح فيه العود؟. قلت : قاله أدبا مع الربوبية ، واستسلاما لقهر
__________________
(١) جزء من حديث طويل أخرجه البخاري فى (الرقاق ـ باب صفة الجنة والنار) ومسلم فى (الإيمان ـ باب معرفة طريق الرؤية) من حديث أبى سعيد الخدري رضى الله عنه.