فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ) (١) وأخذوا من الزكاة : زكاة نفوسهم بالرياضة والتأديب وإضافة الكل إليه. (العبد وما كسب لسيده) ، مع أداء الزكاة الشرعية لمن وجبت عليه. وكان الشيخ أبو العباس السبتي رضى الله عنه يعطى تسعة أعشار زرعه ، ويمسك العشر لنفسه.
وأخذوا من الصيام : صيام الجوارح كلها ، مع صيام القلب عن شهود السّوى. وأخذوا من الحج : حج القلوب إلى حضرة علام الغيوب ، فالكعبة تشتاق إليهم وتطوف بهم ، كما تقدم فى آل عمران. ومن الجهاد : الجهاد الأكبر ، وهو جهاد النفوس ، وهكذا مراسم الشريعة كلها عندهم صافية خالصة من الشوائب ، بخلاف غيرهم ، فلم يأخذ منها إلا قشرها الظاهر وعمل الأشباح ، فهى صور قائمة لا روح فيها ؛ لعدم الإخلاص والحضور فيها. والله تعالى أعلم.
ثم بيّن مقام الإخلاص ، فقال :
(قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيايَ وَمَماتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٦٢) لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (١٦٣) قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (١٦٤))
قلت : (ربّا) : حال من (غير).
يقول الحق جل جلاله : (قُلْ) لهم يا محمد : (إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي) أي : عبادتى كلها ، وقرباتى أو حجى ، (وَمَحْيايَ وَمَماتِي) أي : وعملى فى حياتى ، وعند موتى من الإيمان والطاعة ، أو الحياة والممات أنفسهما ، (لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ ، لا شَرِيكَ لَهُ) أي : هى خالصة لله لا أشرك فيها غيره ، (وَبِذلِكَ) أي : بذلك القول والإخلاص ، أمرنى ربى ، (وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ) ؛ لأن إسلام كل نبى متقدم على إسلام أمته
(قُلْ) لهم : (أَغَيْرَ اللهِ أَبْغِي رَبًّا) فأشرك مع الله ، (وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ) ؛ لأن كل شىء مربوب لا يصلح للربوبية. وهو جواب عن دعائهم له إلى عبادة آلهتهم. (وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ) من شرك أو غيره (إِلَّا عَلَيْها) وزره ، فلا ينفعنى ضمانكم وكفالتكم من عقاب ربى ، وهو رد على الكفار حيث قالوا له : اعبد آلهتنا ونحن نتكفل لك بكل تباعة تتوقعها فى دنياك وأخراك ، ثم أوضح ذلك بقوله : (وَلا تَزِرُ) أي : تحمل نفس (وازِرَةٌ) أي : آثمة (وِزْرَ) نفس (أُخْرى) أي : لا يحمل أحد ذنوب أحد ، (ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ) بالبعث والحساب ، (فَيُنَبِّئُكُمْ) ، أي : يخبركم (بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) من أمر الدين ؛ فيبين الرشد من الغى ، والمحق من المبطل.
الإشارة : الإخلاص سر من أسرار الله ، يودعه قلب من أحب من عباده ، وهو إخلاص العبودية لله وحده ، ولا يتحقق ذلك للعبد إلا بعد تحرره من رق الهوى وخروجه من سجن وجود نفسه ، وهذا شىء عزيز. ولذلك قيل
__________________
(١) الآية ٢ من سورة المؤمنون.