يقول الحق جل جلاله : (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ) قولية أو فعلية أو قلبية ، (فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها) من الحسنات ، فضلا من الله ، وهذا أقل ما وعد من الأضعاف ، وقد جاء الوعد بسبعين وسبعمائة ، وبغير حساب ، ولذلك قيل : المراد بالعشر : الكثرة دون العدد ، (وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها) ؛ قضية للعدل ، (وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) بنفس الثواب وزيادة العقاب.
الإشارة : إنما تضاعف أعمال الجوارح وما كان من قبل النيات ، وأما أعمال القلوب فأجرها بغير حساب ، قال تعالى : (إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ) (١) ، وقال صلىاللهعليهوسلم : «تفكر ساعة أفضل من عبادة سبعين سنة». وقال الشاعر :
كلّ وقت من حبيبى |
|
قدره كألف حجّه |
وقد تقدم هذا فى سورة البقرة (٢).
ثم إن تضعيف الحسنات إنما يكون لمن تمسك بالدين القيم ، وهو الذي أشار إليه بقوله :
(قُلْ إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٦١))
قلت : (دينا) : بدل من محل «صراط» ؛ لأن الأصل : هدانى صراطا مستقيما دينا قيما ، و (قيّما) : فيعل من القيام ، فهو أبلغ من مستقيم ، ومن قرأ بكسر القاف : فهو مصدر وصف به ؛ للمبالغة ، و (ملة إبراهيم) : عطف بيان لدين ، و (حنيفا) : حال من إبراهيم.
يقول الحق جل جلاله : (قُلْ) لهم : (إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) بالوحى والإرشاد إلى ما نصب من الحجج والآيات ، (دِيناً قِيَماً) ؛ مستقيما يوصل من تمسك به إلى جوار الكريم ، فى حضرة النعيم ، وهو (مِلَّةَ إِبْراهِيمَ) أي : دينه ، حال كونه (حَنِيفاً) : مائلا عما سوى الله ، (وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) ، وهو تعريض لقريش ، الذين يزعمون أنهم على دينه ، وقد أشركوا بالله عبادة الأوثان.
الإشارة : قد أخذ الصوفية من هذا الدين القيم ، الذي هدى الله إليه نبيه ـ عليه الصلاة والسلام ـ خلاصته ولبابه ، فأخذوا من عقائد التوحيد : الشهود والعيان على طريق الذوق والوجدان ؛ ولم يقنعوا بالدليل والبرهان ، وأخذوا من الصلاة : صلاة القلوب ، فهم على صلاتهم دائمون مع صلاة الجوارح ، على نعت قوله : (الَّذِينَ هُمْ
__________________
(١) الآية ١٠ من سورة الزمر.
(٢) راجع إشارة الآية ١٩٧ من سورة البقرة.