وقال الشيخ أبو طالب المكي رضى الله عنه : الإخلاص عند المخلصين : إخراج الخلق من معاملة الخالق ، وأول الخلق : النفس ، والإخلاص عند المحبين : ألا يعمل عملا لأجل النفس ، وألّا يدخل عليه مطالعة العوض ، أو تشوف إلى حظ طبع ، والإخلاص عند الموحدين : خروج الخلق من النظر إليهم ، أي : لا يرون مع الله غيره فى الأفعال ، وترك السكون إليهم ، والاستراحة إليهم فى الأحوال. ه.
وبالإخلاص تتفاوت الدرجات ، كما أبان ذلك بقوله :
(وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (١٦٥))
يقول الحق جل جلاله : (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ) أي : يخلف بعضكم بعضا ، أو خلفاء الله فى أرضه ؛ تتصرفون فيها بإذنه على أن الخطاب عام ، أو خلفاء الأمم السابقة ، على أن الخطاب للمسلمين ، (وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ) فى الشرف والغناء والقوة والجاه ، وفى العلوم والأعمال والأحوال والإخلاص والمعارف ، وغير ذلك مما يقع به التفاضل بين العباد ، (لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ) أي : ليختبر شكركم على ما أعطاكم ، وأعمالكم فيما مكنكم فيه من الخلافة.
(إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقابِ) لمن كفر نعمه ، إما فى الدنيا لمن عجل أخذه ؛ لأن كل آت قريب ، (وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) لمن شكر نعمه وآمن وعمل بطاعته ، جمع بين التخويف والترجية ليكون العبد بينهما. وبالله التوفيق.
الإشارة : من شرف هذا الآدمي أن جعله خليفة عنه ، فى ملكه ، يتصرف فيه بنيابته عنه ، ثم إن هذا التصرف يتفاوت على قدر الهمم ، فبقدر ما ترتفع الهمة عن هذا العالم يقع للروح التصرف فى هذا الوجود ، فالعوام إنما يتصرفون فيما ملّكهم الله من الأملاك الحسية. والخواص يتصرفون بالهمة فى الوجود بأسره ، وخواص الخواص يتصرفون بالله ، أمرهم بأمر الله ، إن قالوا لشىء : كن ـ يكون بإذن الله ، مع إرادة الله وسابق علمه وقدره ، وإلا فالهمم لا تخرق أسوار الأقدار ، والحاصل : أن من بقي مع الأكوان شهودا وافتقارا ، كان محبوسا معها ، ومن كان مع المكون كانت الأكوان معه ، يتصرف فيها بإذن الله ، خليفة عنه فيها ، وهم متفاوتون فى ذلك كما تقدم.
وقال تعالى : (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ) أي : خلفاء عنه تتصرفون فى الوجود بأسره بأرواحكم ، وأنتم فى الأرض بأشباحكم ، (وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ) ؛ من أقطاب وأوتاد ونجباء ونقباء وغير ذلك ، مما هو مذكور فى محله. خرطنا الله فى سلكهم ومنحنا ما منحهم ، بمنّه وكرمه ، وبسيدنا محمد صلىاللهعليهوسلم حبيبه ونبيه. آمين ـ والحمد لله رب العالمين.