قلت : (فتطردهم) : جواب النفي ، و (فتكون) : جواب النهى ، أي : ولا تطرد فتكون من الظالمين ، فليس عليك من حسابهم شىء فتطردهم.
يقول الحق جل جلاله لنبيه ـ عليه الصلاة والسلام ـ ، حين طلب منه صناديد قريش أن يطرد عنه ضعفاء المسلمين ليجالسوه ، فهمّ بذلك طمعا فى إسلامهم ، فنزلت : (وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ) أي : يعبدونه بالذكر وغيره ، أو يدعونه بالتضرع والابتهال ، (بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِ) أي : على الدوام. وخص الوقتين بالذكر ؛ لشرفهما. وفى الخبر : «يا ابن آدم ، اذكرني أول النهار وآخره ، أكفك ما بينهما» (١). وقيل : صلاة الصبح والعصر ، وقيل : الصلاة بمكة قبل فرض الخمس.
قال البيضاوي : بعد ما أمره بإنذار غير المتقين ليتقوا ـ أي : على التفسير الثاني فى الآية المتقدمة ـ أمره بإكرام المتقين وتقريبهم ، وألّا يطردهم ، ترضية لقريش ، روى أنهم قالوا : لو طردت هؤلاء الأعبد ـ يعنون فقراء المسلمين ، كعمّار وصهيب وخبّاب وبلال وسلمان ـ جلسنا إليك ، فقال : «ما أنا بطارد المؤمنين». قالوا : فأقمهم عنا ، قال : «نعم». [وروى أن عمر قال له : لو فعلت حتّى تنظر إلى ما يصيرون؟] قالوا : فاكتب بذلك كتابا ، فدعا بالصّحيفة وبعلىّ ؛ ليكتب ، فنزلت (٢). ه. وفى ذكر سلمان معهم نظر لتأخر إسلامه بالمدينة.
ثم وصفهم بالإخلاص فقال : (يُرِيدُونَ وَجْهَهُ) أي : يدعونه مخلصين طالبين النظر لوجهه ، وفيه تنبيه على أن الإخلاص شرط فى الأعمال ، ورتب النهى عليه ؛ إشعارا بأنه يقتضى إكرامهم ، وينافى إبعادهم ، ثم علل عدم طردهم فقال : (ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ) أي : أنت لا تحاسب عنهم ، وهم لا يحاسبون عنك ، فلأى شىء تطردهم؟ وقيل : الضمير : للكفار ، أي : أنت لا تحاسب عنهم ، وهم لا يحاسبون عنك ، فلا تهتم بأمرهم ، حتى تطرد هؤلاء من أجلهم ، (فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ) بطردهم ، لكنه ـ عليه الصلاة السلام ـ لم يفعل ، فلا ظلم يلحقه فى ذلك ؛ لسابق العناية والعصمة.
(وَكَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ) أي : ومثل ذلك الاختبار ، وهو اختلاف أحوال الناس فى أمر الدنيا ، (فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ) أي : ابتلينا بعضهم ببعض فى أمر الدين ، فقدّمنا هؤلاء الضعفاء على أشراف قريش ؛ بالسبق إلى الإيمان (لِيَقُولُوا أَهؤُلاءِ مَنَّ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا) أي : أهؤلاء من أنعم الله عليهم بالهداية والتوفيق دوننا ، ونحن الأكابر والرؤساء ، وهم المساكين والضعفاء ، فنحن أحق منهم به إن كان حقا ، وهذا إنكار منهم لأن يخص هؤلاء من بينهم بإصابة الحق والسبق إلى الخير ، كقولهم (لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا) (٣). واللام فى «ليقولوا» : للعاقبة. قال تعالى
__________________
(١) أخرجه أبو نعيم فى حلية الأولياء ، عن أبى هريرة .. انظر كنز العمال / ١٧٩٥.
(٢) أخرجه بنحوه ابن ماجه فى : (الزهد ، باب مجالسة الفقراء) والطبراني فى الكبير (٤ / ٨٧ ح ٩٦٩٣) والواحدي فى أسباب النزول ، وابن جرير فى التفسير عن خباب ، بدون ذكر سلمان ، وكذلك بدون ذكر مشورة سيدنا عمر ، وقد جاء ذكر مشورة سيدنا عمر عند ابن جرير والواحدي عن عكرمة.
(٣) من الآية ١١ من سورة الأحقاف.