لجبروته ، وخنوعا فى أنوار ملكوته ، بقوله : (وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ) ، وليس لى اختيار فى نبوتى ، (إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَ). هل يكون من هذا وصفه ، بعد كونه بصيرا بنور الله ، ورأفته به ، كالذى عمى عن رؤية إحاطته بكل ذرة من العرش إلى الثرى؟ أفلا تتفكرون أن من ولد من العدم بصيرا بنور القدم ، ليس كمن ولد من العدم أعمى عن رؤية عظمته وجلاله. انتهى كلامه.
ثم أمره بالإنذار لمن ينتفع به ، فقال :
(وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (٥١))
قلت : الضمير فى (به) : يعود على (ما يوحى) ، وجملة (ليس) : حال من ضمير (يحشروا).
يقول الحق جل جلاله : (وَأَنْذِرْ) أي : خوّف بما أوحى إليك ، المؤمنين المقصرين فى العمل ؛ (الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلى رَبِّهِمْ) بالبعث للحساب ، حال كونهم فى ذلك الوقت (لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌ) ينصرهم من عذابه ، (وَلا شَفِيعٌ) يرده عنهم بشفاعته ، (لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) أي : كى يصيروا بإنذارك متقين ، وإنّما خص الإنذار هنا بالذين يخافون ؛ لأنّه تقدم فى الكلام ما يقتضى اليأس من إيمان غيرهم ، فكأنه يقول : أنذر الخائفين ؛ لأنه ينفعهم الإنذار ، وأعرض عمن تقدم ذكرهم من الذين لا يسمعون ولا يعقلون ، أو : أنذر من يتوقع البعث والحساب ، أو يتردد فيه مؤمنا أو كافرا. قاله البيضاوي.
الإشارة : لا ينفع الوعظ والتذكير إلا من سبق له الخوف من الملك القدير ؛ إذ هو الذي ينهضه الخوف المزعج أو الشوق المقلق ، وأما من سوّدت قلبه الخطايا ، وانطبعت فى مرآته صور الأشياء ، فلا ينفع فيه زاجر ولا واعظ ، بل ران على قلبه ما اقترفه من المآثم ، والعياذ بالله.
ثم أمره بالدنو ممن ينفعه التذكير ، ونهاه عن ضده ، فقال :
(وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ (٥٢) وَكَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهؤُلاءِ مَنَّ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا أَلَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ (٥٣))