أقول : قد مرّ في تفسير الفاتحة أنّ الألفاظ موضوعة بإزاء حاقّ المعاني من غير نظر إلى خصوصيّات المصاديق ، وعليه فالكلام والقول إنّما هو كلام باعتبار ما يدلّ عليه من المعنى الذي يصحّ السكوت عليه ، فما يفيد معنى تامّا فهو كلام وقول ، سواء كان معه لفظ وصوت ، أو كان من غير سنخ الألفاظ كالإشارات ونحوها ، والناس لا يتوقّفون في تسمية الصوت المسموع المفيد فائدة تامّة ، وتسمية الإشارة المفيدة كذلك كلاما.
والقرآن أيضا يسمّي المعاني الملقاة في القلوب من ناحية الشياطين كلاما وقولا ، قال سبحانه : (وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذانَ الْأَنْعامِ) ، (١) وقال : (كَمَثَلِ الشَّيْطانِ إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ اكْفُرْ) ، (٢) وقال : (يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ) ، (٣) وقال : (شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ) ، (٤) وقال ـ حكاية عن إبليس ـ : (إِنَّ اللهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ) ، (٥) وقال تعالى : (الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ وَاللهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً). (٦)
ومن الواضح أنّ هذه هي الخواطر الواردة على القلوب ، نسبت إلى الشيطان وسمّيت ب : الأمر والقول والوسوسة والوحي والوعد ، وجميعها كلام ، ولا لفظ لساني هناك.
ومن هنا يعلم أنّ ما يشتمل عليه قوله : (الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ
__________________
(١). النساء (٤) : ١١٩.
(٢). الحشر (٥٩) : ١٦.
(٣). الناس (١١٤) : ٥.
(٤). الأنعام (٦) : ١١٢.
(٥). إبراهيم (١٤) : ٢٢.
(٦). البقرة (٢) : ٢٦٨.