فقال حمام مكة منها ، وقيل جاءت عشية ثم صبّحتهم هلكى ، وعن عكرمة : من أصابته أصابه الجدري ، وهو أول جدري ظهر في الأرض.
وقد ذهب الأستاذ الإمام محمد عبده الى أن الذي أهلك الجيش «هو انتشار داء الجدري والحصبة بين أفراده ، وقد نشأ هذا الداء من حجارة يابسة سقطت على أفراد الجيش ، بواسطة فرق عظيمة من الطير ، ممّا يرسله الله مع الريح. فهي أشبه بالميكروبات الفتّاكة التي تعصف بالجسم».
فالأستاذ الإمام يريد أن يجعل هذه المعجزة الخارقة للعادة ، أمرا متّفقا مع المعهود في حياة الناس ، فيرجع الهزيمة الى انتشار وباء الحصبة أو الجدري ، حتّى يتسنّى له إقناع العقول ، وفي الوقت نفسه يتخلّص مما ورد في بعض الروايات من المبالغة في وصف هذه الطير ، والحجارة التي حملتها في رجليها وفمها.
ونرى أن الأولى عدم إخضاع الآيات لمألوف الناس ، وما يحدث في واقع حياتهم ، لأنّ الآيات تخبر عن خارقة وقعت بقدرة الله القادر ، الذي يقول للشيء كن فيكون.
وإذا سلّمنا أنّ الأمر قد جرى على أساس الخارقة غير المعهودة ، وأنّ الله أرسل طيرا غير معهودة ، فإن ذلك يكون أدعى إلى تحقيق العبرة الظاهرة ، المكشوفة لجميع الأنظار ، في جميع الأجيال ، حتّى ليمنّ الله بها على قريش بعد البعثة ، ويضربها مثلا على رعاية الله لحرماته ، وغيرته عليها.
«فممّا يتناسق مع جو هذه الملابسات كلّها ، أن يجيء الحادث غير مألوف ولا معهود ، بكلّ مقوّماته وبكلّ أجزائه. ولا داعي للمحاولة في تغليب صورة المألوف من الأمر ، في حادث هو في ذاته وبملابساته مفرد فذّ».
ثمّ إنّ إصابة الجيش بالوباء ، وعدم اصابة أحد من العرب القريبين منه ، أمر خارق للعادة. وما دامت المسألة خارقة ، فلم العناء لحصرها في صورة معيّنة ، مألوفة للناس. مع أن السورة تفيد أنّ أمرا خاصّا ، قد أرسله الله على أصحاب الفيل.
إنّنا لا يجوز أن نواجه النصوص القرآنية ، بمقرّرات عقلية سابقة ، بل ينبغي أن نواجه هذه النصوص ، لنتلقّى منها مقرّراتنا الإيمانيّة ، ومنها نكوّن قواعد منطقنا وتصوّراتنا.