مدن لا تحصى ، من جملة ذلك ما سمّاه الشارع جابرصا وجابلقا ، وهما مدينتان من مدائنه ، لكلّ واحدة منها ألف باب لا يحصى ما فيها من الخلائق ، وأعظم تلك المدائن هورقليا التي هي مدينة مثاليّة فلكيّة ، فيها مثل الأفلاك وما فيها ، إلى غير ذلك من الأقوال التي قالوا بها ونسبوا القول بها إلى أساطين الحكمة ، كأفلاطون ومن قبله كسقراط وفيثاغورس وانباذقلس وغيرهم ، بل إلى الأنبياء عليهالسلام أيضا ، وادّعوا أنّ أرباب الكشف منهم وصلوا إلى هذا العالم وأحواله ، وشاهدوه بكثرة الرياضات وخلع نواسيت الأبدان. والله تعالى أعلم بحقيقة الحال.
في وجه تسمية العالم المثاليّ والبرزخيّ بالعالم المتوسّط
بين العالمين ، وكذا في وجه تسمية النشأة الدنيويّة
بالعالم الحسّيّ والنشأة الأخرويّة بالعالم العقليّ
فإن قلت : قد ظهر ممّا قد قرّرت وجه كون العالم المثاليّ متوسّطا بين العالم الحسّيّ والعالم العقليّ ، فما وجه ما يقال إنّ ما بعد الموت إلى قيام القيامة عالم البرزخ؟ قلت : معنى البرزخ الحاجز بين الشيئين والمتوسّط بينهما ، وهذا العالم لا يخفى أنّه بحسب الوجود في الخارج والزمان متوسّط بين النشأة الدنيويّة والأخرويّة ، حاجز بينهما ، وكذا بحسب المرتبة متوسّط بين العالم الحسيّ والعالم العقليّ ، حيث إنّ موجودات هذا العالم من جنس موجودات العالم المثاليّ ، وقد عرفت أنّه متوسّط بينهما.
فإن قلت : ما معنى ما يقال : إنّ النشأة الدنيويّة عالم حسّيّ والنشأة الأخرويّة عالم عقليّ؟ كما هو مذكور في كلام كثير منهم ، مع أنّ في كلّ من النشأتين محسوسا ومعقولا تدرك النفس محسوساتها بالحواس ومعقولاتها بذاتها وبالقوّة العقليّة ، أمّا النشأة الدنيويّة فظاهر وجودهما فيها ، وأمّا النشأة الأخرويّة فحيث نقول بالمعاد الجسمانيّ وبوجود الأجسام فيها ، وكذا بوجود المعقولات فيها ، وبإدراك النفس للقسمين جميعا حيث نقول باللذّات الحسّيّة والعقليّة فيها.