ثم إن كل واحد منها ليس يعمل عملا واحدا بل يأتي بأنواع لا نهاية لها من الوسوسة والدعاء ، فإن القوة الباصرة ، كلما أبصرت شيئا من الجسمانيات دعت النفس إلى طلبه ، وكذا القول في سائر القوى. وأيضا : النفس في أول الخلقة إلى كمال البلوغ إنما تفعل وتتحرك بمقتضى هذه القوة الجسمانية ، ولا شك أن كثرة الأفعال توجب الملكات الراسخة.
وأما القوة العاقلة الناهية عن طلب الجسمانيات الآمرة بطلب الباقيات الصالحات ، فهي إنما تحدث بعد سنّ البلوغ. فهي في الحقيقة إنما تقوى بعد استيلاء أولئك التسعة عشر على مملكة البدن.
وأيضا : فأكثر أهل العالم راغبون في طلب الجسمانيات ، معرضون عن طلب الروحانيات ، والطبع يقوى ميله بسبب كثرة الأعوان ، ويضعف ميله بسبب قلة الأعوان ، فقد ظهر بما ذكرنا : أن الأسباب الداعية إلى المعصية واللذة والفسق والفجور كثيرة قوية ، والأسباب الداعية إلى الطاعات ، والإعراض عن الدنيا والإقبال على الروحانيات قليلة ، ثم من هذه الحالة نهى تعالى عن الميل إلى الدنيا ، وأمر بطلب الآخرة ، والأسباب الموضوعية أسباب توجب أضداد هذه الأحوال ، فلو كان حكم العقل في أفعال الله وفي أحكامه معتبرا ، لكان هذا التكليف قبيحا ، وحيث لم يكن الأمر كذلك علمنا أن حكم (١) العقل في أفعال الله ، وفي أحكامه معزول. والله أعلم.
وهذا الدليل قريب من الدليل الذي قبله ، إلا أن ذاك في شياطين الجن ، وهذا في شياطين الأخلاق المذمومة.
الحجة الثامنة : أن نقول الفعل الذي يفعله الله تعالى لغرض من الأغراض. إما أن يكون حصول ذلك الغرض أولى له من لا حصوله. أو لا تحصل هذه الأولوية ، فإن كان الأول لزم أن يكون إله العالم باقتضاء لذاته ، مستكملا بغيره ، وهو محال. وإن كان الثاني. فالاستواء يناقض الرجحان.
__________________
(١) صحة (س).