كذلك لم يكن إيصال مثل هذا الشيء إلى الحيوان إنعاما في حقه ، ومثال هذا : أنك إذا رميت قلادة من الدار إلى كلب ، ورميت عظما إلى إنسان لم يكن ذلك إنعاما في حق كل واحد منهما ، لأن الكلب لا حاجة له إلى وجدان القلادة من الدر ، ولا شهوة له إلى وجدانها ، وكذلك الإنسان لا تتعلق حاجته بوجدان ذلك العظم ولا تتعلق شهوته بتحصيله، أما إذا قلبت الأمر ورميت القلادة من الدر إلى الإنسان ورميت العظم إلى الكلب ، كان ذلك إنعاما في حق الإنسان وفي حق الكلب ، لأن الإنسان يشتهي وجدان القلادة من الدر، والكلب يشتهي تناول العظم. فيثبت أن الحيوان ما لم يكن مشتهيا للشيء ومحتاجا إليه، لم يكن إيصاله إليه إنعاما في حقه ، وإذا ثبت هذا ظهر أن تلك الزيادة ، يمتنع كونها نعمة ، إلا إذا كان المنعم عليه مشتهيا لها ، وراغبا في تحصيلها ، ومحتاجا إلى الفوز بها ، ومتى كان الأمر كذلك ، فحينئذ يعود ما ذكرنا من أنه يصير قدر النعمة الحاصلة في الحال ، مساويا لقدر المضرة التي كانت حاصلة في الزمان الماضي ، بسبب خلق الشهوة والحاجة فيه، وحينئذ تتقابل المنفعة بالمضرة ، والألم باللذة ، والخير بالشر. ومثل هذا الفاعل يسمى عابثا بمقتضى تحسين العقل وتقبيحه ، وغير منعم البتة ، ولما كان ذلك باطلا بإجماع العقلاء علمنا أن حكم العقل على أفعال الله بالتحسين والتقبيح باطل (غير ملتفت إليه. والله أعلم) (١).
الحجة الثالثة : أن نقول : إن الخلق والتكليف يدلان على أن أفعال العباد لا يجب (٢) انطباقها على رعاية مصالح العباد ، ودفع المفاسد عنهم ، ونحن نذكر الآن أن الخلق يدل على ذلك. فنقول :
العالم إذا كان محدثا كان تخصيص الله إحداث العالم بالوقت المعين دون ما قبله وما بعده ، إما أن يكون لأجل اختصاص ذلك الوقت بمصلحة أو بدفع مفسدة ـ ولا يحصل ذلك المعنى على تقدير حدوث العالم في سائر الأوقات ـ وإما
__________________
(١) من (م)
(٢) لا يجب (م). يجب (س).