فقال موسى ـ عليهالسلام ـ في جوابه : (رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى) (١) فالخلق إشارة إلى تدبير الأجساد ، والهداية إلى تدبير الأرواح. وهذا هو كمال البيان. لأن كل ذات قائمة بنفسها ، سوى الله تعالى فهي إما متحيزة ، وهي الأجساد ، أو غير متحيزة وهي الأرواح ، فانقطع فرعون هاهنا في هذا المجلس. ثم أعاد هذه المناظرة في مجلس (٢) آخر، وطلب تعريف حقيقة الإله بلفظة «ما» فقال : (وَما رَبُّ الْعالَمِينَ) (٣)؟ فذكر موسى في جوابه : الصفة. وقال : (رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ) (٤) فقال فرعون (لِمَنْ حَوْلَهُ : أَلا تَسْتَمِعُونَ) (٥)؟ يعنى أني ذكرت لفظة «ما» وهي تفيد طلب ماهية الذات ، وأنه يجيب عنه بذكر الصفة. وهذا الجواب لا يليق بهذا السؤال. فأعاد موسى الجواب بذكر الصفة (مرة أخرى) (٦) ، وقال : (رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ) (٧) فعند هذا صرح فرعون بالسفاهة. وقال : (إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ) (٨) يعني أني نبهته على أن الجواب بذكر الصفة لا يليق بالسؤال الذي يذكر بلفظة «ما» وإنما يليق بالسؤال الذي يذكر بلفظة «من» ثم إنه مع هذا التنبيه لم ينتبه. فقال موسى : (رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ) (٩) يعني : إن كنت يا فرعون عاقلا علمت أنه لا جواب عن هذا السؤال إلا بما ذكرته.
وتقريره : أن تعريف الشيء إما أن يكون بنفسه أو بأجزاء ماهيته ، أو بالأمور الخارجة عن ماهيته. أما تعريفه بنفسه : فمحال لأن المعرف متقدم في المعلومية على المعرف، فلو عرفنا الشيء بنفسه لزم أن يكون العلم به متقدما على العلم به ، وهو محال. وأما تعريفه بأجزاء ماهيته (فهذا إنما يعقل في حق الماهية) (١٠) التي تكون مركبة من الأجزاء ، والحق ـ سبحانه ـ منزه عن ذلك
__________________
(١) طه (٥٠).
(٢) هو مجلس واحد كرر الله ما حدث فيه.
(٣) الشعراء (٢٣).
(٤) الشعراء (٢٤).
(٥) الشعراء (٢٥).
(٦) من (س).
(٧) الشعراء (٢٦).
(٨) الشعراء (٢٧).
(٩) الشعراء (٢٨).
(١٠) من (س).