فغاية الأمر أنه لا بد في كل اجتماع من رئيس مطاع ، منوط به النظام والانتظام. لكن من أين يلزم عموم رئاسته جميع الناس ، وشمولها أمر الدين على ما هو المعتبر في الإمام ، لأنا نقول : انتظام أمر عموم الناس على وجه يؤدي إلى صلاح الدين والدنيا ، ويفتقر إلى رئاسة عامة فيهما. إذ لو تعدد الرؤساء في الأصقاع والبقاع ، لأدى إلى منازعات ومخاصمات موجبة لاختلال أمر النظام. ولو اقتصرت رئاسته على أمر الدنيا ، لفات انتظام أمر الدين الذي هو المقصود الأهم ، والعمدة العظمى ، وأما الكبرى فبالإجماع عندنا ، وبالضرورة عند القائلين بالوجوب العقلي. واعتراض صاحب تلخيص المحصل بأن بيان الصغرى عقلي من باب القبح والحسن وليس من مذهبكم ، والكبرى أوضح من الصغرى ، فلا حاجة إلى التعرض للإجماع مدفوع بأن كون الشيء صلاحا أو فسادا ليس في شيء من متنازع الحسن والقبح ، وكون دفع الضرر واجبا بمعنى استحقاق تاركه العقاب عند الله تعالى ليس بواضح فضلا عن الأوضح. ولا ينبغي أن يخفى مثل هذا عليه. ولا أن يكون الرجل العالم العلمي في هذه الغاية من الشغف بالاعتراض. لا يقال : الإجماع على الوجوب إنما هو إذا لم يتضمن مضرة مثل المضرة المندفعة أو فوتها. وهاهنا نصب الإمام يتضمن مفاسد لا يضبطها العد والإحصاء لما في الآراء من اختلافات الأهواء ، وفي الطباع من الاستنكاف عن تسلط الأكفاء ، والإنسان قليل البقاء على ما عليه من الاهتداء وصلاح الاقتداء فتميل النفوس إلى الإباء والاستعصاء ويظهر الفساد. ويكثر البغي والعناد ويهلك الحرث والنسل (١) ويذهب الفرع والأصل. وكفاك شاهدا ما تسمع من قصص انقضاء خلافة عثمان (رضي الله عنه) إلى ابتداء دولة بني العباس ، لأنا نقول : مضاره بالنسبة إلى منافعه ، ومفاسده بالإضافة إلى مصالحه مما لا يعبأ بكثرته ، ويلحق بالعدم في قلته.
فإن قيل : لو وجب نصب الإمام ، لزم إطباق الأمة في أكثر الأعصار على ترك الواجب لانتفاء الإمام المتصف بما يجب من الصفات ، سيما بعد انقضاء الدولة
__________________
(١) قال تعالى : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيُشْهِدُ اللهَ عَلى ما فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ ، وَإِذا تَوَلَّى سَعى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ). سورة البقرة الآيات ٢٠٤ ، ٢٠٥.