وتتعوج وتستقيم ، فإذا اتصل الشعاع المنبعث من الناظر بالقاعدة على حد معلوم مع الاستقامة ولم يكن ثم بعد مفرط ولا قرب مفرط أدركه الرائي فلذلك لا يرى الشيء البعيد على غاية البعد ولا يرى باطن الأجفان وإن كانت القاعدة صقيلة ارتدت الأشعة إلى الرائي فرأى عند ذلك نفسه وربما يظن أنه ينفصل عن المتلون صورة ويمتد إلى العين فينطبع فيها وكلا المذهبين باطل.
أما القول بالأشعة التي تنبعث من العين فبطلانه بأنا نعلم قطعا أن العين على صغرها لا تتسع لأجسام تنبسط على نصف كرة العالم فإن تلك الأجسام إن كانت موجودة بالفعل محسوسة بالجفن فوجب أن يكون قدرها مثل نصف قدر كرة السماء وهذا محال وإن حدثت في ساعة الملاحظة فما السبب لحدوثها ومن المعلوم أن القدرة الحادثة لا تصلح لحدوث الأجسام والقول بتولد الأجسام أمحل ، ويلزم من ذلك أيضا أن جماعة من ذوي الأبصار إن اجتمعوا على رؤية شيء وجب أن يقوي إدراك الضعيف البصر الذي معهم فإن شعاعه إن قل ما في نفسه فقد تكثر بأشعتهم ، وإن ضعف عن حالة القوى فقد يقوى باشتراك أشعتهم فينبغي أن يستعين الضعيف كما يستعين بقوة ضوء السراج.
ثم الشعاع إن كان عرضا فيستحيل عليه الانتقال ، وإن كان جوهرا فلا يخلو إما أن يبقى متصلا ، وإما أن لا يبقى فإن بقي فيلزم أن يتفرق ويدرك الشيء متفرقا وينبغي أن يكون مثل خط مستقيم يتحرك بتحريك الريح وينقطع بقطع الماء وإن لم يبق متصلا فلم يدرك العين بما اتصل به بل بما انفصل عنه ، فما اتصل بالمرئي لم يتصل بالعين وما اتصل بالعين لم يتصل بالمرئي فيلزم أن لا يتحقق له إدراك أصلا.
والقول بانتقال صورة من المرئي إلى البصر باطل أيضا فإن الصورة لو انتقلت لاحترقت العين برؤية النار وهي إن كانت عرضا فهي لا تنتقل وإن كانت جوهرا فلينقص المرئي بانفصال شيء منه ولا ينفصل شيء منه إلا بسبب ولا سبب هاهنا فهو باطل فتحقق أن الإدراك معنى في حاسة المدرك ثم يبقى هاهنا مباحثة أخرى وهي أن الإدراك هل هو إدراك لصورة في حاسة المدرك تطابق الصورة الخارجة أم هو إدراك ما في الخارج من غير توسط صورة في الحاسة ، وشيء آخر وهو أن محل الإدراك هو الحاسة الظاهرة من العين والأنف والفم والأذن أم هي آلات وأدوات للحاسة المشتركة بينهما فيكون الحس الحقيقي فيها حتى تجتمع المختلفات فيها ويكون الإدراك إدراكا واحدا فيظن بعض العقلاء أنه هو العلم إذ هو في الباطن ويظن بعضهم إنه إدراك أخص من العلم إذ مدركه في الظاهر والإدراكات الخمس مختلفة الحقائق حتى