بانتفاء ذلك. فإذا اللبيب من ترك الوهم جانبا ، ولم يتخذ غير البرهان والدليل صاحبا. وإذا عرف أن مستند ذلك ليس إلى مجرد الوهم فطريق كشف الخيال إنما هو بالنظر في البرهان ، فإنا قد بينا أنه لا بد من موجود هو مبدأ الكائنات ، وبينا أنه لا جائز أن يكون له مثل من الموجودات شاهدا ولا غائبا ، ومع تسليم هاتين القاعدتين يتبين أن ما يقضي به الوهم لا حاصل له ، ثم ولو لزم أن يكون جسما كما في الشاهد للزم أن يكون حادثا وهو ممتنع ، لما سبق.
وليس هو أيضا عرضا ، وإلا لافتقر إلى مقوم يقومه في وجوده ، إذ العرض لا معنى له إلا ما وجوده في موضوع ، وذلك أيضا محال. ولا يتطرق إليه العدم لا سابقا ولا لاحقا ، وإلا كان باعتبار ذاته ممكنا ولو كان ممكنا لافتقر في وجوده إلى مرجح كما مضى.
فإذا قد ثبت أن الباري ـ تعالى ـ ليس بجوهر ولا جسم ولا عرض. ولا محدث ، بل أبدي لم يزل ، وسرمدي ، لا يزال. وهو مع ذلك لا تحله الحادثات ، ولا تقوم به الكائنات ، وللمتكلم في ذلك مسالك :
المسلك الأول :
هو أنهم قالوا : لو جاز قيام الحوادث بذات الباري ـ تعالى ـ لاستحال خلوه عنها ، وما استحال خلوه عن الحوادث فهو حادث ، والباري مستحيل أن يكون حادثا.
واعلم أن هذا المسلك ضعيف جدا ، وذلك أنه وإن تسومح بتسليم أن ما لا يخلو عن الحوادث حادث لكن لا يلزم من كون الباري ـ تعالى ـ قابلا للحوادث أن لا يخلو عنها.
فإن قيل : إن ما قبل شيئا من الحوادث فهو قابل لضده ، وضد الحادث حادث ، ومهما كان قابلا لضده فهو لا يخلو عن أحدهما ، فلو كان الباري قابلا للإرادة الحادثة لم يخل عنها أو عن ضدها ، ومهما لم يخل عن أحدهما ،