العلم من جوانبه ، وينطق الحكم من نواجذه ، يستوحش من الدنيا وزهرتها ، ويستأنس بالليل ووحدته ، وكان والله غزير العبرة ، طويل الفكرة ، يقلب كفه ، ويخاطب نفسه ، يعجبه من اللباس ما قصر ، ومن الطعام ما جشب ، كان فينا كأحدنا ، يجيبنا (١) إذا سألناه ، ويبدؤنا إذا أتيناه ، ونحن والله مع تقربنا وقربه منا لا نكلمه لهيبته ، ولا نبدؤه لعظمته ، فإن (٢) تبسم فعن مثل اللؤلؤ المنظوم ، يعظم أهل الدين ، ويحب المساكين ، لا يطمع القوي في باطله ، ولا ييأس الضعيف من عدله ، فأشهد بالله لقد رأيته في بعض مواقفه وقد أرخى الليل سدوله ، وغارت نجومه ، وقد مثل في محرابه قابضا على لحيته يتململ تململ السليم ، ويبكي بكاء الحزين ، فكأني لأسمعه وهو يقول : يا دنيا إليّ تعرضت أم إليّ تشوقت ، هيهات هيهات غرّي غيري ، لا حان حينك ، قد أتتك ثلاثا لا رجعة لي فيك ...! ، فعمرك قصير ، وغشك كثير ، وخطرك كبير ، آه من قلة الزاد وبعد السفر ووحشة الطريق.
فوكفت دموع معاوية ما يملكها على لحيته ، وهو ينشفها بكمه ، وقد اختنق القوم بالبكاء ، ثم قال : رحم الله أبا حسن ، كان والله كذلك ، فكيف حزنك عليه يا ضرار؟
قال : حزني والله حزن من ذبح واحدها في حجرها ، فلم ترق عبرتها ، ولم تسكن حرارتها ثم خرج (٣).
__________________
(١) نهاية الصفحة [١٦٩ ـ أ].
(٢) في (ب ، ج) : فإذا.
(٣) وصف ضرار لأمير المؤمنين عليهالسلام أورده ابن عبد البر في الاستيعاب في ترجمة أمير المؤمنين (٣ / ٢٠٩) ، المرشد بالله في الأمالي الخميسية (١ / ١٤٢) ، كما رواه ابن أبي الدنيا في عنوان (ندب علي ومراثيه) الحديث (٩٢) ، من كتابه : مقتل علي عليهالسلام ، كما أخرجه الكوفي في المناقب حديث (٥٤٠) ، وذكر اسم ضرار هكذا : ضرار بن عمرو ، ولحديث ضرار مصادر وأسانيد كثيرة جدا وهو حديث متواتر ويجد الطالب بعض أسانيد هذا الحديث في نهج السعادة (٣ / ٨٧ ط (١) قال : السيد المحمودي : وفي السيد الرضا في المختار (٧٧) من الباب الثالث من نهج البلاغة كما ذكره أيضا الشيخ منتجب الدين في الحكاية السادسة من خاتمة أربعينه ، كما رواه أيضا الأصفهاني في الحلية في ترجمة أمير المؤمنين وابن الصباغ المالكي ، في الفصول المهمة ، ومحمد بن طلحة الشافعي في مطالب السئول.