[خامسا : خبر شق الصدر] (١)
فلم نزل بها حتى أذنت ، فرجعنا به فأقمنا أشهرا ثلاثة أو أربعة ، فبينما هو يلعب خلف
__________________
(١) الذي ذهب إليه عامة أهل السير والتراجم في خبر شق الصدر أن رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم بقي في بني سعد حتى السنة الرابعة وقيل : الخامسة ، أمّا ابن هشام في سيرته (١ / ١٦٤ ـ ١٦٥) فذهب إلى أنه حدث في السنة الثالثة ، ونظرا لخشية حليمة عليه بعد حادثة شق الصدر فقد أرجعته إلى أمه آمنة ، فمكث معها إلى أن بلغ ست سنين ، كما أورده مصنفو كتب الحديث كمسلم ، وأحمد ، والحاكم ، ... إلخ ، ومصنفو كتب التفسير في تفسير قوله تعالى : (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ) ، وقالوا بأن الحادثة هي الأولى إذ جرت له حادثة شق صدر أخرى بعد مبعثه وقد تجاوز عمره آنذاك الخمسين سنة ، فعن مالك بن صعصعة أن رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم حدثهم عن ليلة أسري به فقال : ((بينما أنا في الحطيم ، أو قال : في الحجر مضطجع بين النائم واليقظان أتاني آت فشق ما بين هذه إلى هذه ـ يعني من ثغرة نحره إلى أسفل بطنه ـ قال : فاستخرج قلبي ثم أتيت بطشت من ذهب مملوء إيمانا ، فغسل قلبي ثم أحشائي ، ثم أعيد ... إلخ ما ذكروه» ، وهذا الحديث أخرجه مسلم : كتاب الإيمان ، وأحمد (٣ / ١٢١) ، والحاكم (٢ / ٦١٦).
وبعد كل ما سبق فإن خبر شق الصدر في رأينا رواية أصلها جاهلي مأخوذة عن أسطورة أوردها أبو الفرج الأصفهاني في كتاب الأغاني فحواها أن أمية بن أبي الصلت كان نائما فجاء طائران إلى بيته فوقع أحدهما على باب البيت ودخل الطائر الآخر فشق قلب أمية ، ثم رده ، فقال له الطائر الآخر : أوعي ، قال : نعم ، قال زكي ، قال : أبى كما أوردها بطريقة أخرى بنفس الحادثة إلّا أنه ذكر بأنه كان نائما في بيت أخته ، وبما أن ابن هشام وغيره يذكرون أن سبب إرجاع رسول الله إلى أمه هو أن نفرا من نصارى الحبشة رأوه صلىاللهعليهوآلهوسلم مع مرضعته وقلبوه ، وقالوا لها : لنأخذن هذا الغلام إلى ملكنا ، وهذا يناقض الرواية التي تقول بأن سبب إرجاعه هو شق صدره ، ذلك التناقض يجعل من الرواية محل شك وريبة ، إذ كيف تكون تلك الحادثة هي سبب إرجاعه كما يزعم وهم يقولون : إنها حدثت له وهو ابن ثلاث سنوات أو أقل مع أن إرجاعه إلى أمه بعد أن صار عمره الخمس سنوات ، وهل من المعقول أن يكون مصدر الشر تلك القطعة اللحمية التي تسمى القلب ، فإذا أجريت له عملية جراحية ونظفت تلك العلقة بماء حتى ولو بماء زمزم وفي طست من ذهب ، إذ أنه لا يوجد طست من نوع آخر ، أما عند الله من المعادن والطسوت إلا الذهب ، وهذا يناقض أن الجنة «فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت» ... إلخ ، وإن كان كذلك فإنه يمكن لأي إنسان أن يعمل لنفسه عملية جراحية يتم من خلالها إخراج قلبه وتنظيفه من الشر ، وهل كانت تلك العلقة الشيطانية تذهب مع كل حادثة شق صدر وتعود مرة أخرى لكي تحدث له مرة أخرى ، وإن كان كذلك فهذا ينافي ويناقض عصمة رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم من الخطأ وينافي قوله صلىاللهعليهوآلهوسلم : «أنا خيار من خيار من خيار» ، ولما ذا لم تتكرر هذه الحادثة بعد الرابعة أو الخامسة؟ ألم يكن بالإمكان أن يخلقه الله بغير هذه العلقة السوداء ، وما تعني هذه الرواية هو أنه أي رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم كان مجبرا على عمل الخير وليس مخيرا ؛ لأن حظ الشيطان قد أبعد منه بتلك الحوادث ، ولما ذا لم ير المخيط في صدره صلىاللهعليهوآلهوسلم إلّا أنس؟ أيعقل أن خير الأنبياء وأفضلهم هو من اختصه الله بتلك الحادثة وحده دون أنبيائه ، وأخيرا أفلا ينافي ذلك كله الآيات القرآنية التالية الدالة على أن الشيطان ليس له سبيل على عباد الله المخلصين : (قالَ رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) ، وقال تعالى : (إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ) ، وقال : (إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ). انظر : سيرة ابن هشام (١/ ١٧٦) ، طبقات ابن سعد (١/ ١١٢) ، دلائل النبوة للبيهقي (٢/ ٥ وما بعدها) ، السيرة الحلبية (١/ ٨٤ ـ ١٠٥) ، دلائل النبوة لأبي نعيم ص (١١١) ، البداية والنهاية (٢/ ٢٧٥) ، المبتدأ والمبعث والمغازي لمحمد بن إسحاق بن يسار (٢٥ ـ ٢٨) ، الخصائص الكبرى للسيوطي (١/ ٥٤) ، ومسلم في صحيحه : كتاب الإيمان ـ باب الإسراء (ح / ٢٦١) ، وأحمد في مسنده (٣ / ١٢١ ، ١٤٩ ، ٢٨٨) ، الحاكم (٢ / ٦٠٠ ، ٦١٦) ، صحيح ابن حبان بتحقيق د. عبد المعطي قلعجي (١ / ١٤٠) ، أما في السيرة الشامية للصالحي (٢ / ٨٢ ـ ٨٦).