وقد عادت الجبال رمالا ، وهو الكثيب المهيل ، ثم يحيي الله سبحانه وتعالى إسرافيل فينفخ في الصور من صخرة ببيت المقدس ، والصور قرن من نور له أربعة عشر دارة ، الدارة الواحدة فيها ثقوب بعدد أرواح البرية ، فتخرج أرواح البرايا لها دويّ كدويّ النحل فتملأ ما بين الخافقين ، ثم تذهب كل نسمة إلى جثتها. فسبحان ملهمهم إياها! حتى الوحش والطير وكل ذي روح ، فإذا الكل كما قال تعالى (ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ) [الزمر : ٦٨]. والزجرة العظيمة هي الصيحة كما قال الله تعالى : (فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ) [النازعات : ١٣ ، ١٤]. والساهرة هي الأرض السفلى ، لأنهم فتحوا أبصارهم عند قيامهم فنظروا إلى جبال منسوفة ، وبحار منزوفة ، والأرض لا عوج فيها ولا أمت ، والأمت الشيء المرتفع كالربوة ، والعوج الأرض المنخفضة كالوهدة والأودية ، وإنما صارت مستوية كأنها صحفة قاعدة. فتعجبوا لما نظروا من الساهرة وقعد كل واحد منهم على قبره عريانا منتظرا متعجبا متفكرا معتبرا كما قال صلىاللهعليهوسلم في الصحيح «عراة غرلا» أي غير مختونين ، إلا قوما ماتوا في الغربة مؤمنين لم يكفنوا ، فإنهم يحشرون وقد كسوا ثيابا من الجنة ، وأقواما ماتوا شهداء فيقومون وقد كسوا من الجنة ، وأقواما أيضا من أمة محمد صلىاللهعليهوسلم متحرين السنة ما خافوا عنها سم الخياط ، فإن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : «بالغوا في أكفان موتاكم فإنّ أمّتي تحشر بأكفانها وسائر الأمم عراة» رواه أبو سفيان مسندا. وقال صلىاللهعليهوسلم : «يحشر الميّت في ثيابه» وبعض الموتى لما احتضر قال : اكسوني الثوب الفلاني ، فمنع منه حتى مات في غلالة ليس عليه غيرها ، فرئي في المنام بعد أيام قلائل كأنه حزين فقال له : ما بالك؟ فأعرض عن خطابه ثم قال : منعتموني ثوبي وجعلتموني أحشر في هذه الغلالة لا غير.
فصل في الإقامة التي بين النفختين
وهي الموتة الثانية ، لأنها منعت من الحواس الباطنة ، والموت الجسماني منع من الحواس الظاهرة ، لأن الأجرام هي الفاعلة للحركة ، ولأنهم لا يصلّون ولا يصومون ولا هم يتعبدون ، ولو أدخل الله ملكا في جثة لأقام فيها ، لأنه ذو حرص على التحيز إلى عالمه. والنفس جوهر بسيط ، فإذا ركبت في الجسد صحت حياته وأفعاله.
واختلف الناس في هذه المدة الكائنة بين النفختين ، واستقر جمهورهم على أنها أربعون سنة ، وحدثني من لا أشك في علمه ولا معرفته أن أمر ذلك لا يعلمه إلا الله تعالى لأنه من أسرار الربوبية ، وكذلك حدثني أن الاستثناء واقع عليه سبحانه وتعالى خاصة ، فقلت : ما معنى قول النبيصلىاللهعليهوسلم : «أنا أوّل من تنشقّ الأرض عنه يوم القيامة ، فإذا أخي موسى آخذ بقائمة العرش فلا أدري أبعث قبلي أم كان ممّن استثناه الله عزوجل؟» فلا يخرج من هذا الحديث على ما نقدره إلا غير أجسام ، وإن كان موسى الآن لا جثة له ، وبعد الاستثناء الذي عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم في أمر الفزع ، لأن البرايا عند الصعقة وعند الفزعة كما قال كعب وقد حدث في مجلس عمر