استحالته كخلق الله تعالى مثل نفسه أو الجمع بين المتضادين ، فهذا ما لا يرد الشرع به ، وإن أراد به ما يقصر العقل عن إدراكه ولا يستقل بالإحاطة بكنهه فهذا ليس بمحال أن يكون في علم الأطباء مثلا جلب المغناطيس للحديد ، وأن المرأة لو مشت فوق حية مخصوصة ألقت الجنين وغير ذلك من الخواص ، وهذا مما ينبو عنه العقل بمعنى أنه لا يقف على حقيقته ولا يستقل بالاطلاع عليه فلا ينبو عنه الحكم باستحالته ، وليس كل ما لا يدركه العقل محالا في نفسه بل لو لم نشاهد قط النار وإخراجها فأخبرنا مخبر وقال : إني أصك خشبة بخشبة وأستخرج من بينهما شيئا أحمر بمقدار عدسة فتأكل هذه البلدة وأهليها حتى لا يبقى منهم شيء من غير أن ينتقل ذلك إلى جوفها ، ومن غير إن يزيد في حجمها بل تأكل نفسها فلا تبقى هي ولا البلد ، لكنا نقول : هذا الشيء ينبو عنه العقل ولا يقبله ، وهذه صورة النار والحس قد صدق ذلك ، وكذلك قد يشتمل الشرع على مثل هذه العجائب التي ليست مستحيلة ، وإنما هي مستبعدة وفرق بين البعيد والمحال ، فإن البعيد هو ما ليس بمألوف والمحال ما لا يتصور كونه ، وأما معنى قول الله تعالى : (لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ) [الأنبياء : ٢٣]. وقوله تعالى : (لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً) [طه : ١٢٥]. فالسؤال قد يطلق ويراد به الإلزام يقال : ناظر فلان فلانا ويتوجه عليه سؤاله وقد يطلق ويراد به الاستخبار كما يسأل التلميذ أستاذه ، والله تعالى لا يتوجه عليه السؤال بمعنى الإلزام وهو المعنى بقوله : (لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ). إذ لا يقال له : لم قول إلزام فأما أن لا يستخبر ولا يستفهم فليس كذلك وهو المراد بقوله : (لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى). وهذا القدر كاف في جواب هذه الأسئلة ، ومن ترقّ عن محل التقليد بأدنى كياسة ولم ينته إلى رتبة الاستقلال كان من الهالكين ، فنعوذ بالله من كياسة لا تنفع فإن الجهالة أدنى إلى الخلاص والنجاة منها ، شعر :
ولم أر في عيوب النّاس شيئا |
|
كنقص القادرين على التمام |
فصل
إذا عرفت أنك حادث ، وأن الحادث لا يستغني عن محدث فقد حصل لك البرهان على الإيمان بالله ، وما أقرب إلى العقل من هاتين المعرفتين. أعني أنك حادث وأن الحادث لا يحدث بنفسه ، وإذا عرفت نفسك وأنك جوهر خاصيتك معرفة الله ومعرفة ما ليس بمحسوس وليس البدن من قوام ذاتك ، فانهدام البدن لا يعدمك فقد عرفت اليوم الآخر بالبرهان فإنه لا معنى له إلا أن لك يومين يوم حاضر أنت فيه مشغول بهذا البدن ، ويوم آخر أنت فيه مفارق لهذا الجسد ، وإذا لم يكن قوامك بالجسد وقد فارقته بالموت فقد حصل اليوم الآخر ، وإذا عرفت أنك إذا فارقت المحسوسات بمفارقة الجسد تلقيت إما نعمة هي معرفة الله تعالى التي هي خاصية ذاتك ومنتهى لذاتك بمقتضى طبعك الأصلي لو لم تمرض بالميل إلى الشهوات ، وإما عذابا بالحجاب عن الله تعالى : (وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ما يَشْتَهُونَ) [سبأ : ٥٤]. وعرفت أن سبب المعرفة الذكر والفكر