ولنا أن نصور
الشمس له مثالا لما بينهما من المناسبة في شيء واحد ، وهو أن المحسوسات تنكشف بنور
الشمس كما تنكشف المعقولات بالعقل فهذا القدر من المناسبة كاف في المثال ، بل
السلطان يمثل في النوم بالشمس وبالقمر الوزير ، والسلطان لا يماثل الشمس بصورته
ولا بمعناه ، ولا الوزير يماثل القمر. إلا أن السلطان له استعلاء على الكافة ويعم
أثره النور ، كما أن الوزير واسطة بين السلطان والرغبة في إفاضة أثر العدل ، فهذا
مثال وليس بمثل والله تعالى قال : (اللهُ
نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ) [النور : ٣٥]. فأي
مماثلة بين نوره وبين الزجاجة والمشكاة والشجرة والزيت؟ قال الله تعالى : (أَنْزَلَ مِنَ
السَّماءِ ماءً فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً
رابِياً) [الرعد : ١٧]. ذكر ذلك تمثيلا للقرآن والقرآن صفة قديمة لا
مثل له ، فكيف صار الماء له مثالا؟ وكم من المنامات عرضت على رسول الله صلىاللهعليهوسلم من رؤيا لبن أو حبل. فقال : اللبن هو الإسلام ، والحبل هو
القرآن إلى أمثال له لا تحصى وأي مماثلة بين اللبن والإسلام والحبل والقرآن إلا في
مناسبة ، وهو أن الحبل يتمسك به النجاة والقرآن كذلك ، واللبن غذاء تغذى به الحياة
الظاهرة والإسلام غذاء تغذى به الحياة الباطنة ، فهذا كله مثال وليس بمثل ، بل هذه
الأشياء لها. والله تعالى لا مثل له لكن له أمثلة محاكية لمناسبة معقولة من صفات
الله تعالى ، فإنا إذا عرفنا المسترشد أن الله تعالى كيف يخلق الأشياء وكيف يعلمها
وكيف يزيدها وكيف يتكلم وكيف يقوم الكلام بنفسه. مثلنا جميع ذلك بالإنسان ، ولو لا
أن الإنسان عرف من نفسه هذه الصفات لما فهم مثاله في حق الله تعالى ، فالمثال في
حق الله تعالى جائز ، والمثل باطل ، فإن المثال هو ما يوضح الشيء والمثل ما يشابه
الشيء.
فإن قيل : هذا
التحقيق الذي ذكرتموه ليس يفضي إلى أن الله تعالى يرى في المنام. بل إلى أن الرسول
أيضا لا يرى ، فإن المرئي مثاله لا عينه فقوله : " من رآني في المنام فقد
رآني" فهو نوع تجوز معناه كأنه رآني وما سمع من المثال كأنه سمع مني.
قلنا : وهذا ما
يريده القائل بقوله : رأيت الله تعالى في المنام لا غير. أما أن يريد به أنه رأى
ذاته على ما هو عليه فلا ، فإنه حصل الاتفاق على أن ذات الله تعالى لا ترى وإن
مثالا يعتقده النائم ذات الله تعالى أو ذات النبي يجوز أن يرى ، وكيف ينكر ذلك ،
مع وجوه في المنامات ، فإن لم يره بنفسه فقد تواتر إليه من جماعة أنهم رأوا ذلك ،
إلا أن المثال المعتقد قد يكون صادقا وقد يكون كاذبا ، ومعنى الصادق أن الله تعالى
جعل رؤياه واسطة بين الرائي وبين النبي في تعريف بعض الأمور ، وفي قدرة الله تعالى
خلق مثل هذه الواسطة بين العبد وبين اتصال الحق به وهو موجود ، فكيف يمكن إنكاره؟
فإن قيل : إذا
كانت رؤية الرسول تجوزا ، فالتجوز مما قد أذن في إطلاقه في حقه ولا يجوز في حق
الله تعالى من الإطلاقات إلا ما ورد الإذن به.
قلنا : قد ورد
الإذن بإطلاق ذلك. فإن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : " رأيت ربّي في أحسن صورة" ،