وراء التمييز والإحساس ينكشف فيه غرائب وعجائب يقصر عنها الإحساس والتمييز. فلا تجعل أقصى الكمال وقفا على نفسك ، وإن أردت مثالا مما تشاهده من جملة خواص بعض البشر فانظر إلى ذوق الشعر كيف يختص به قوم من الناس وهو نوع إدراك ويحرم منه بعضهم حتى لا تتميز عندهم الألحان الموزونة من المزحفة. وانظر كيف عظمت قوة الذوق في آخرين حتى استخرجوا منها الموسيقى والأغاني وصنوف الدستانات التي منها المحزن ، ومنها المطرب ، ومنها المنوم ، ومنها المبكي ، ومنها المجنن ، ومنها القاتل ، ومنها الموجب للغشي وإنما تقوى هذه الآثار فيمن له أصل الذوق ، وأما العاطل عن خاصية الذوق فإنه يشارك في سماع الصوت وتضعف فيه هذه الآثار وهو يتعجب من صاحب الوجد والغشي ولو اجتمع العقلاء كلهم من أرباب الذوق على تفهيمه معنى الذوق لم يقدروا عليه.
فهذا مثال في أمر خسيس لأنه قريب إلى فهمك فقس به الذوق الخاص النبوي ، واجتهد في أن تصير من أهل الذوق بشيء من تلك الروح فإن للأولياء منه حظا وافرا ، فإن لم تقدر فاجتهد أن تصير بالأقيسة التي ذكرناها والتشبيهات التي رمزنا إليها من أهل العلم بها فإن لم تقدر فلا أقل من أن تكون من أهل الإيمان بها (يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ) [المجادلة : ١١]. والعلم فوق الإيمان ، والذوق فوق العلم ، والذوق وجدان والعلم قياس ، والإيمان قبول مجرد بالتقليد وحسن الظن بأهل الوجدان أو بأهل العرفان ، وإذا عرفت هذه الأرواح الخمسة ، فاعلم أنها بجملتها أنوار إذ بها تظهر أصناف الموجودات والحسي والخيالي منها وإن كان يشارك البهائم في جنسها ، لكن الذي للإنسان منها نمط آخر أشرف وأعلى وخلقا في الإنسان لغرض آخر أجلى وأسنى. وأما الحيوانات فلم يخلقا لها ليكونا آلتها في طلب غذائها وتسخيرها للآدميين. وإنما خلقا للآدمي ليكونا شبكة له يقتص بهما في جهة العالم الأسفل مبادئ المعارف الدينية الشريفة إذ الإنسان إذا أدرك بالحس شخصا معينا اقتبس من عقله معنى عاما مطلقا كما ذكرنا في مثال عبد الرحمن بن عوف ، فإذا عرفت هذه الأرواح الخمسة فلنرجع إلى عرض الأمثلة.
بيان أمثلة هذه الآية : اعلم أن القول في موازنة هذه الأرواح الخمسة للمشكاة والزجاجة والمصباح والشجرة والزيت يمكن تطويله ، لكني أوجز وأقتصر على التنبيه على طريقه ، فأقول : أما الروح الحاس فإذا نظرت إلى خاصيته وجدت أنواره خارجة من ثقب عدة كالعينين والأذنين والمنخرين وغيرهما فأوفق مثال له في عالم الشهادة المشكاة. وأما الروح الخيالي فتجد له خواص ثلاثة:
إحداها : أنه من طينة العالم السفلي الكثيف لأن الشيء المتخيل ذو مقدار وشكل وجهات محصورة مخصوصة وهو على نسبة من المتخيل من قرب أو من بعد ، ومن شأن الكثيف الموصوف بأوصاف الأجسام أن يحجب عن الأنوار العقلية المحضة التي تتنزه عن الوصف