الملكوت العالم العلوي والعالم الروحاني والعالم النوراني ، وفي مقابلته العالم السفلي والجسماني والظلماني. ولا تظنن أنا نعني بالعالم العلوي السماوات فإنها علو وفوق في حق بعض عالم الشهادة والحس يشارك ادراكها البهائم ، وأما العبد فلا تفتح له أبواب الملكوت ولا يصير ملكوتيا إلا وتبدل في حقه الأرض غير الأرض والسماوات ، ولا يصير كل ما هو داخل تحت الحس والخيال أرضه ومن جملتها السماوات ، وكل ما ارتفع عن الحس سماؤه. وهذا هو المعراج الأول لكل سالك ابتدأ سفره لقرب حضرة الربوبية. فالإنسان مردود إلى أسفل سافلين ومنه يترقى إلى العالم الأعلى ، وأما الملائكة فإنهم من جملة عالم الملكوت عالقون في حضرة القدس ، ومنها يشرفون على العالم الأسفل ، ولذلك قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : " إنّ الله خلق الخلق في ظلمته ثمّ أفاض عليهم من نوره". وقال : " لله ملائكة هم أعلم بأعمال النّاس منهم". والأنبياء إذا بلغ معراجهم إلى عالم الملكوت فقد بلغوا المبلغ الأقصى وأشرفوا على جملة من عالم الغيب ، إذ من كان في عالم الملكوت كان عند الله وعنده مفاتيح الغيب أي من عنده تنزل أسباب الموجودات في عالم الشهادة ، إذ عالم الشهادة أثر من آثار ذلك العالم يجري منه مجرى الظل بالإضافة إلى الشخص ومجرى الثمر بالإضافة إلى المثمر ، والمسبب بالإضافة إلى السبب ، ومفاتيح معرفة المسببات إنما تؤثر من الأسباب ، ولذلك كان عالم الشهادة مثالا لعالم الملكوت كما سيأتي في بيان المشكاة والمصباح والشجرة لأن المشبه لا يخلو من موازاة المشبه به ، ومحاكاته نوعا من المحاكاة على قرب أو بعد وهذا الآن له غور عميق. ومن اطلع على كنه حقيقته انكشفت له حقائق أمثلة القرآن على يسر.
دقيقة ترجع إلى حقيقة النور : قلنا : إن كل ما يبصر نفسه وغيره أولى باسم النور ، فإن كان من جملته ما يبصر به غيره أيضا من أنه يبصر نفسه وغيره فهو أولى باسم النور من الذي لا يؤثر في غيره أصلا ، بل بالحري أن يسمى سراجا منيرا لفيضان أنواره على غيره ، وهذه الخاصة توجد للروح القدسي النبوي إذ تفيض بواسطته أنوار المعارف على الخلق وبه يفهم تسمية الله محمداصلىاللهعليهوسلم سراجا منيرا ، والأنبياء كلهم سرج ، وكذلك العلماء ولكن التفاوت بينهم لا يحصى.
دقيقة : إذا كان اللائق بالذي يستفاد منه نور الإبصار أن يسمى سراجا منيرا فالذي يقتبس منه السراج في نفسه جدير بأن يكنى عنه بالنار ، وهذه السرج الأرضية إنما تقتبس في أصلها من أنوار علوية والروح القدسي النبوي يكاد زيته يضيء ولو لم تمسسه نار إنما يصير نورا على نور إذا مسته النار ، فبالحري أن يكون مقتبس الأرواح الأرضية من الأرواح الإلهية العلوية التي وصفها علي وابن عباس عليهماالسلام فقالا : إن لله ملكا له سبعون ألف وجه في كل وجه سبعون ألف فم في كل فم سبعون ألف لسان يسبح الله بجميعها ، وهو الذي قوبل بالملائكة كلهم فقيل : (يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا) [النبأ : ٣٨]. فهي إذا اعتبرت من حيث يقتبس منها السرج الأرضية لم يكن لها مثال إلا النار ، وذلك لا يؤنس إلا من جانب الطور.
دقيقة : الأنوار السماوية التي منها تقتبس الأنوار الأرضية إن كان لها أن تترتب بحيث يقتبس بعضها