إلى تكذيب الرسول عليه الصلاة والسلام ، فالحنبلي يكفر الأشعري زاعما أنه كذب الرسول في إثبات الفوق لله تعالى وفي الاستواء على العرش ، والأشعري يكفره زاعما أنه مشبه وكذب الرسول في أنه ليس كمثله شيء ، والأشعري يكفر المعتزلي زاعما أنه كذب الرسول في جواز رؤية الله تعالى وفي إثبات العلم والقدرة والصفات له ، والمعتزلي يكفر الأشعري زاعما أن إثبات الصفات تكفير للقدماء وتكذيب للرسول في التوحيد ، ولا ينجيك من هذه الورطة إلا أن تعرف حدّ التكذيب والتصديق وحقيقتهما فيه فينكشف لك علوّ هذه الفرق وإسرافها في تكفير بعضها بعضا.
فأقول : التصديق إنما يتطرق إلى الخبر بل إلى المخبر ، وحقيقة الاعتراف بوجوه ما أخبر الرسولصلىاللهعليهوسلم عن وجوده إلا أن للوجود خمس مراتب ولأجل الغفلة عنهما نسبت كل فرفة مخالفها إلى التكذيب فإن الوجود ذاتي وحسّي وخيالي وعقلي وشبهي ، فمن اعترف بوجود ما أخبر الرسول عليه الصلاة والسلام عن وجوده بوجه من هذه الوجوه الخمسة فليس بمكذب على الإطلاق. فلنشرح هذه الأصناف الخمسة ولنذكر مثالها في التأويلات.
أما الوجود الذاتي فهو الوجود الحقيقي الثابت خارج الحسّ والعقل ، ولكن يأخذ الحسّ والعقل عنه صورة فيسمى أخذه إدراكا وهذا كوجود السماوات والأرض والحيوان والنبات وهو ظاهر بل هو المعروف الذي لا يعرف الأكثرون للوجود معنى سواه.
وأما الوجود الحسّي : فهو ما يتمثل في القوة الباصرة من العين مما لا وجود له خارج العين فيكون موجودا في الحسّ ويختصّ به الحاس ، ولا يشاركه غيره ، وذلك كما يشاهده النائم بل كما يشاهده المريض المتيقظ إذ قد تتمثل له صورة ولا وجود لها خارج حسّه حتى يشاهدها كما يشاهد سائر الموجودات الخارجة عن حسّه ، بل قد تتمثل للأنبياء والأولياء في اليقظة والصحّة صورة جميلة محاكية لجواهر الملائكة ، وينتهي إليهم الوحي والإلهام بواسطتها فيتلقون من أمر الغيب في اليقظة ما يتلقاه غيرهم في النوم وذلك لشدة صفاء باطنهم. كما قال تعالى : (فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا) [مريم : ١٧]. وكما أنه عليه الصلاة والسلام رأى جبريل عليهالسلام كثيرا ، ولكن ما رآه في صورته إلا مرتين وكان يراه في صور مختلفة يتمثل بها وكما يرى رسول الله صلىاللهعليهوسلم في المنام ، وقد قال" من رآني في النوم فقد رآني حقا ، فإن الشيطان لا يتمثّل بي" ، ولا تكون رؤيته بمعنى انتقال شخصه من روضة المدينة إلى موضع النائم ، بل هي على سبيل وجود صورته في الحسّ النائم فقط ، وسبب ذلك وسره طويل ، وقد شرحناه في بعض الكتب فإن كنت لا تصدق به فصدق عينك ، فإنك تأخذ قبسا من نار كأنه نقطة ثم تحركه بسرعة حركة مستقيمة فتراه خطا من نار ، وتحركه حركة مستديرة فتراه دائرة من نار ، والدائرة والخط مشاهدان وهما موجودان في حسّك لا في خارج عن حسك ، لأن الموجود في الخارج هي نقطة في كل حال ، وإنما تصير خطا في أوقات متعاقبة فلا يكون الخط موجودا في حالة واحدة وهو ثابت في مشاهدتك في حالة واحدة.