التفسير ، فإن القرآن من أعظم الأشياء وأبينها وأجلّها وأعزّها. وفيه من المشكلات الكثيرة ما لا يحيط بها كل عقل إلا من أعطاه الله تعالى فهما في كتابه. قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : " ما من آية من آيات القرآن إلّا ولها ظهر وبطن ولبطنه بطن إلى سبعة أبطن" ، وفي رواية إلى تسعة. وقالصلىاللهعليهوسلم : " لكلّ حرف من حروف القرآن حدّ ولكلّ حدّ مطلع" ، والله تعالى أخبر في القرآن عن جميع العلوم وجلي الموجودات وخفيها وصغيرها وكبيرها ومحسوسها ومعقولها. وإلى هذه الإشارة بقوله تعالى : (وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ) [الأنعام : ٥٩]. وقال تعالى : (لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ) [ص : ٢٩]. وإذا كان أمر القرآن أعظم الأمور فأي مفسر أدى حقه ، وأي عالم خرج عن عهدته ، نعم كل واحد من المفسرين شرع في شرحه بمقدار طاقته ، وخاض في بيانه بحسب قوة عقله ، وقدر كنه علمه ، فكلهم قالوا ، وبالحقيقة ما قالوا ، وعلم القرآن يدل على علم الأصول والفروع والشرعي والعقلي. ويجب على المفسر أن ينظر في القرآن من وجه اللغة ، ومن وجه الاستعارة ، ومن وجه تركب اللفظ ، ومن وجه مراتب النحو ، ومن وجه عادة العرب ، ومن وجه أمور الحكماء ، ومن وجه كلام المتصوفة حتى يقرب تفسيره إلى التحقيق ، ولو يقتصر على وجه واحد ويقنع في البيان بفن واحد لم يخرج عن عهده البيان ، ويتوجه عليه حجّة الإيمان وإقامة البرهان ، ومن علم الأصول أيضا علم الأخبار. فإن النبيّ صلىاللهعليهوسلم أفصح العرب والعجم ، وكان معلما يوحى إليه من قبل الله تعالى ، وكان عقله محيطا بجميع العلويات والسفليات ، فكلّ كلمة من كلماته بل لفظة من ألفاظه يوجد تحتها بحار الأسرار وكنوز الرموز ، فعلم أخباره ومعرفة أحاديثه أمر عظيم ، وخطب جليل. لا يقدر أحد أن يحيط بعلم الكلام النبوي إلا أن يهذب نفسه بمتابعة الشارع ، ويزيل الاعوجاج عن قلبه بتقويم شرع النبيّ صلىاللهعليهوسلم ، ومن أراد أن يتكلم في تفسير القرآن وتأويل الأخبار ويصيب في كلامه ، فيجب عليه أوّلا تحصيل علم اللغة والتبحر في فن النحو ، والرسوخ في ميدان الإعراب ، والتصرف في أصناف التصريف ، فإن علم اللغة سلم ومرقاة إلى جميع العلوم ، ومن لم يعلم اللغة فلا سبيل له إلى تحصيل العلوم. فإن من أراد أن يصعد سطحا عليه تمهيد المرقاة أولا ثم بعد ذلك يصعد ، وعلم اللغة وسيلة عظيمة ، ومرقاة كبيرة ، فلا يستغني طالب العلم عن أحكام اللغة ، فعلم اللغة أصل الأصول ، وأوّل علم اللغة معرفة الأدوات ، وهي بمنزلة الكلمات المفردة ، وبعدها معرفة الأفعال مثل الثلاثي والرباعي وغيرهما ، ويجب على اللغوي أن ينظر في أشعار العرب. وأولاها وأتقنها أشعار الجاهلية. فإن فيها تنقيحا للخاطر ، وترويحا للنفس ومع ذلك الشعر والأدوات والأسامي يجب تحصيل علم النحو فإنه لعلم اللغة بمنزلة ميزان القبان للذهب والفضة. والمنطق لعلم الحكمة والعروض للشعر ، والذراع للأثواب ، والمكيال للحبوب ، وكل شيء لا يوزن بميزان لا يتبين فيه حقيقة الزيادة والنقصان. فعلم اللغة سبيل إلى علم التفسير والأخبار ، وعلم القرآن والأخبار دليل على علم التوحيد ، وعلم التوحيد هو الذي لا تنجو نفوس العباد إلّا به ولا تتخلص من خوف المعاد إلّا به ، فهذا تفصيل علم الأصول.