لهم فطنة فطرية فليس لهم داعية الطلب بل شغلتهم الصناعات والحرف وليس فيهم أيضا داعية الجدل بخلاف المتكايسين في العلم مع قصور الفهم عنه. فهؤلاء لا يختلفون ولكن يتخيرون بين الأئمة المختلفين فادعوا هؤلاء إلى الله بالموعظة كما أدعوا أهل البصيرة بالحكمة ، وأدعوا أهل الشغب بالمجادلة وقد جمع الله سبحانه وتعالى هذه الثلاثة في آية واحدة كما تلوته عليك أوّلا ، فأقول لهم ما قاله رسول اللهصلىاللهعليهوسلم لأعرابي جاءه فقال : علمين في غرائب العلم فعلم رسول الله صلىاللهعليهوسلم أنه ليس أهلا لذلك ، فقال : وما ذا علمت في رأس العلم أي الإيمان والتقوى والاستعداد للآخرة اذهب فاحكم رأس العلم ثم ارجع لأعلمك من غرائبه. فأقول للعامي : ليس الخوض في الاختلافات من عشك فادرج فإياك أن تخوض فيه أو تصغي إليه فتهلك ، فإنك إذا صرفت عمرك في صناعة الصياغة لم تكن من أهل الحياكة ، وقد صرفت عمرك في غير العلم ، فكيف تكون من أهل العلم ومن أهل الخوض فيه ، فإياك ثم إياك أن تهلك نفسك فكل كبيرة تجري على العامي أهون من أن يخوض في العلم فيكفر من حيث لا يدري. فإن قال : لا بدّ من دين أعتقده وأعمل به لأصل به إلى المغفرة والناس مختلفون في الأديان ، فبأيّ دين تأمرني أن آخذ أو أعول عليه؟ فأقول له : للدين أصول وفروع والاختلاف إنما يقع فيهما ، أما الأصول فليس عليك أن تعتقد فيها إلا ما في القرآن ، فإن الله تعالى لم يستر عن عباده صفاته وأسماءه ، فعليك أن تعتقد أن لا إله إلا الله وأن الله حي عالم قادر سميع بصير جبار متكبر قدوس ليس كمثله شيء إلى جميع ما ورد في القرآن واتّفق عليه الأئمة ، فذلك كاف في صحّة الدين وإن تشابه عليك شيء ، فقل : آمنا كل من عند ربنا واعتقد كل ما ورد في إثبات الصفات ونفيها على غاية التعظيم والتقديس مع نفي المماثلة واعتقاد أنه ليس كمثله شيء وبعد هذا لا تلتفت إلى القيل والقال فإنك غير مأمور به ولا هو على حد طاقتك ، فإن أخذ يتحذلق ويقول عليه وقد اختلف فيه الأشعرية والمعتزلة فقد خرج بهذا عن حدّ العوام إذ العامي لا يلتفت قلبه إلى مثل هذا ما لم يحركه شيطان الجدل ، فإن الله لا يهلك قوما إلا يؤتيهم الجدل كذلك ورد الخبر ، وإذا التحق بأهل الجدل فسأذكر علاجهم هذا ما أعظ به في الأصول وهو الحوالة على كتاب الله فإن الله أنزل الكتاب والميزان والحديد وهؤلاء أهل الحوالة على الكتاب.
وأما الفروع فأقول : لا تشغل قلبك بمواقع الخلاف ما لم تفرغ عن جميع المتفق عليه فقد اتفقت الأئمة على أن زاد الآخرة هو التقوى والورع ، وأن الكسب الحرام والمال الحرام والغيبة والنميمة والزنى والسرقة والخيانة وغير ذلك من المحظورات حرام ، والفرائض كلها واجبة فإن فرغت من جميعها علمتك طريق الخلاص من الخلاف فإن هو طالبني بها قبل الفراغ من هذا كله فهو جدلي وليس بعامي ومتى تفرغ العامي من هذا إلى مواضع الخلاف. أفرأيت رفقاءك قد فرغوا من جميع هذا ثم أخذ إشكال الخلاف بمخنقهم هيهات ما أشبه ضعف عقولهم في خلافهم إلا بعقل مريض به مرض أشرف على الموت وله علاج متفق عليه بين الأطباء وهو يقول قد اختلف الأطباء في بعض الأدوية أنها حارّة أو باردة وربما افتقرت إليه يوما فأنا لا أعالج نفسي حتى أجد من يعلمني رفع الخلاف فيه. نعم لو رأيتم صالحا قد فرغ من حدود