ثانيا : إذا كانت القراءة مشهورة إلى عهد متأخّر فهي كسائر القراءات المشهورة عن أصحابها تصبح حجّة ـ في مصطلحهم ـ ولا يجب ثبوتها بالتواتر عن الرسول صلىاللهعليهوآله كما أسلفنا أنّ القراءات المعروفة ليست متواترة لا عن عهد الرسالة ولا عن أربابها أيضا. هذا مع كون القرآن بذاته متواترا وفق قراءة المشهور.
ومن ثمّ فكلام الإمام السرخسي بهذا الصدد يبدو متناقضا.
ثالثا : أسلفنا أنّ الزيادات في كلام السلف ولا سيّما مثل ابن مسعود ، إنّما كانت زيادات تفسيرية لا عن قصد أنّها من نصّ الوحي ، وربّما اعتمدها بعض الفقهاء اعتبارا بفهم صحابي كبير ، لا بنقله كما وهمه هذا الإمام.
رابعا : يقول تعالى : (ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها) (١) ولا نسخ فيما لا يكون هناك ناسخ. وهكذا لا نسخ في غير الأحكام حسبما مرّت عليك من شرائط النسخ. (٢) إذن فلنتساءل : ماذا يكون الناسخ هنا؟ وكيف ينسخ لفظ الآية ويبقى حكمها مع الأبد؟ وأيّ فائدة في نسخ اللفظ حينذاك وهو سند الحكم الذي يجب بقاؤه ما دام الحكم باقيا؟ وهذا عمدة الإشكال على هذه المزعومة وسيأتي مزيد توضيح لهذا الاعتراض.
وقال ابن حزم الأندلسي ـ بعد تسلّمه صحّة ما زعمه آية الرجم وأنّها سقطت فيما سقطت من سورة الأحزاب التي كانت تعدل سورة البقرة أو أطول منها ـ : ولكنّها نسخ لفظها وبقي حكمها. قال : وقد توهّم قوم أنّ سقوط آية الرجم إنّما كان لغير هذا ، وظنّوا أنّها تلفت بغير نسخ. لما روي عن عائشة ، قالت : لقد نزلت آية الرجم والرضاعة فكانتا في صحيفة تحت سريري ، فلمّا مات رسول الله صلىاللهعليهوآله تشاغلنا بموته فدخل داجن فأكلها.
قال : وهذا حديث صحيح وليس على ما ظنّوا ، لأنّ آية الرجم إذ نزلت حفظت وعرفت وعمل بها رسول الله صلىاللهعليهوآله ، إلّا أنّه لم يكتبها نسّاخ القرآن في المصاحف ولا أثبتوا لفظها في القرآن ، وقد سأله عمر بن الخطاب ذلك فلم يجبه. فصحّ نسخ لفظها وبقيت الصحيفة التي كتبت فيها كما قالت عائشة فأكلها الداجن ولا حاجة بأحد إليها.
__________________
(١) ـ البقرة ٢ : ١٠٦.
(٢) ـ في الجزء الثاني من التمهيد ، «شروط النسخ» فما بعد.