فصل
اعلموا أولا أن المعجزة مأخوذة لفظا من العجز ، وهي عبارة شائعة على التوسع والاستعارة والتجوز ؛ فإن المعجز على التحقيق خالق العجز ، والذين يتعلق التحدي بهم لا يعجزون عن معارضة النبي صلىاللهعليهوسلم. فإن المعجزة إن كانت خارجة من قبيل مقدورات البشر ، فلا يتصور أيضا عجز المتحدين بالمعجزات ، فإن المعجز يقارن المعجوز عنه. فلو عجزوا عن معارضة ، لوجدت المعارضة ضرورة ، والعجز مقترن بها على ما تقصيناه في كتاب القدر. فالمعنى بالإعجاز الإنباء عن امتناع المعارضة من غير تعرض لوجود العجز الذي هو ضد القدرة.
وقد يتجوز بإطلاق العجز على انتفاء القدرة ، كما يتجوز بإطلاق الجهل على انتفاء العلم. ثم في تسمية الآية معجزة تجوز آخر أيضا ، وهو إسناد الإعجاز إليها ، والرب تعالى هو معجز الخلائق بها ، ولكنها سميت معجزة لكونها سببا في امتناع ظهور المعارضة على الخلائق.
ثم اعلموا أن المعجزة لها أوصاف تتعين الإحاطة بها. منها أن تكون فعلا لله تعالى ، فلا يجوز أن تكون المعجزة صفة قديمة ، إذ لا اختصاص للصفة القديمة ببعض المتحدّين دون بعض. ولو كانت الصفة القديمة معجزة ، لكان وجود الباري تعالى معجزا. وإنما المعجز فعل من أفعال الله تعالى نازل منزلة قوله لمدعي النبوءة : صدقت ، على ما سنوضح وجه دلالة المعجزة على صدق الرسول ، والذي ذكرنا جار فيما لا يقع مقدورا للبشر.
فإن قيل : هل يجوز أن يكون المشي على الماء ، والتصعد في الهواء ، والترقي في جو السماء معجزة؟ قلنا : لا يبعد تقرير ذلك معجزة إذا تكاملت صفات المعجزات ، والحركات في الجهات من قبيل مقدورات البشر. وأما نفس الحركات ، فمن اعتقد كونها من فعل الله تعالى ، لم يبعد أن يعتقد كونها معجزة من حيث كانت فعلا لله تعالى ، لا من حيث كانت كسبا للعباد ، فتكون القدرة على هذا التقدير والحركات معجزات.
فإن قيل : لو ادعى نبي النبوءة ، وقال : آيتي أن يمتنع على أهل هذا الإقليم القيام مدة ضربها ، فذلك من الآيات الظاهرة ، وليست هي فعلا ، بل هي انتفاء فعل ؛ وقد قال شيخنا رحمهالله : المعجزة فعل لله تعالى يقصد بمثله التصديق ، أو قائم مقام الفعل يتجه فيه قصد التصديق ، وأشار إلى ما ذكرناه. والوجه عندي أن القعود المستمر مع محاولة القيام هو المعجز ، فرجع المعجز إلى الفعل. فإن قيل : إن القعود معتاد ، والمعجز خارق للعادة ؛ قلنا : القعود المستمر مع محاولة القيام في أقوام لا يعدون كثرة خارق للعادة ؛ فهذا شريطة المعجزة.
ومن شرائطها أن تكون خارقة للعادة ، إذ لو كانت عامة معتادة يستوي فيها البار والفاجر ، والصالح والطالح ، ومدعي النبوءة المحق بها والمفتري بدعواه ، لما أفاد ما يقدر معجزا تمييزا وتنصيصا على الصادق ، ولا خفاء بذلك فنطنب فيه.