فإن أبدوا مراء في الصراط ، وقالوا : في الحديث المشتمل عليه إنه أدق من الشعر وأحد من السيف ، وخطور الخلائق على ما هذا وصفه غير ممكن. وربما يجحدون الميزان ، مصيرا إلى أن الأعمال هي التي يتعلق الثواب والعقاب بها ، وهي أعراض لا يتحقق وزنها.
فأما ما ذكروه في الصراط فلا خفاء بسقوطه ؛ فإنه لا يستحيل الخطور في الهواء ، والمشي على الماء. وكيف ينكر ذلك من يلزمه الدين رغما الاعتراف بقلب العصا حية وفلق البحر ، وإحياء الموتى في دار الدنيا. والموزون الصحف المشتملة على الأعمال ، والرب تعالى يزنها على أقدار أجور الأعمال وما يتعلق بها من ثوابها وعقابها. فهذا القدر كاف في إرشادكم إلى طريق إثبات السمعيات.
باب
في الثواب والعقاب وإحباط الأعمال والرد على المعتزلة والخوارج
والمرجئة (١) في الوعد والوعيد
الثواب عند أهل الحق ليس بحق محتوم ، ولا جزاء مجزوم ، وإنما هو فضل من الله تعالى. والعقاب لا يجب أيضا ، والواقع منه هو عدل من الله. وما وعد الله تعالى من الثواب أو توعد به من العقاب ، فقوله الحق ووعده الصدق. وكل ما دللنا به على أنه لا واجب على الله تعالى ، فإنه يطرد هاهنا.
وذهبت المعتزلة إلى أن الثواب حتم على الله تعالى ، والعقاب واجب على مقترف الكبيرة إذا لم يتب عنها. ولا يجب العقاب عند الأكثرين وجوب الثواب ؛ لأن الثواب لا يجوز حبطه والعقاب يجوز إسقاطه عند البصريين وطوائف من البغداديين ؛ ولكن المعنى بكونه مستحقا عندهم أن يحسن لوقوعه مستحقا ، ولو لم يكن كذلك لما حسن العقاب على التأبيد ، فهذا حقيقة أصلهم.
فإن ساعدناهم على التقبيح والتحسين عقلا ، ألزمناهم على موجب أصلهم أمثلة لا قبل لهم بها. منها ، أن السيد إذا كان يقوم بمؤن عبده وإزاحة علله ، والعبد يخدمه غير مستفرغ جهده ، بل كان مودعا معظم أفعاله فلا يستحق العبد على سيده شيئا على مقابل الخدمة المستحقة عليه. وكذلك المعظم في عشيرته ، إذا كان يكرم ولده ويقيم أوده ، والولد يكرمه ، ويرعاه ويطلب مرضاته
__________________
(١) فرقة كلامية قالت بالإرجاء في الإيمان ، وبالقدر على مذاهب القدرية وبإرجاء الحكم على صاحب الكبيرة إلى الله تعالى خلافا للمعتزلة ولأهل السنة. وقيل الإرجاء تأخير علي رضي الله عنه عن الدرجة الأولى إلى الرابعة وهي أربعة أصناف. انظر الملل والنحل والفرق بين الفرق.