فصل
جماهير المعتزلة صاروا إلى أن الكبيرة الواحدة تحبط ثواب الطاعات وإن كثرت ؛ وذهب الجبائي وابنه إلى أن الزلات إنما تحبط ثواب الطاعات إذا أربت عليها ، وإن أربت الطاعات درأت السيئات وأحبطتها. ثم لا ينظرون إلى أعداد الطاعات والزلات ؛ وإنما ينظرون إلى مقادير الأجور والأوزار ، فرب كبيرة واحدة يغلب وزرها أجر طاعات كثيرة العدد ؛ ثم لا سبيل إلى ضبط مبالغ الأقدار ، بل هو موكول إلى علم الله تعالى ، واضطربوا في استواء الحسنات والسيئات ولم يثبت لهم في ذلك قدم ؛ وقال ابن الجبائي : لا يجوز وقوع ذلك إذ ليس للمكلفين إلا الجنة أو النار ، وإذا تساوت أقدار الأعمال ، اقتضى تساويها رتبة أخرى.
وكل ما ذكروه خبط لا تحصيل له ؛ إذ ليس بإزاء معرفة الله تعالى كبيرة يربو وزرها على أجرها ، والأشياء تعرف بأضدادها ، فيعلم أجر المعرفة بوزر ضدها ؛ فكان من حقهم أن يدرءوا الزلات بالمعرفة ؛ فإذا لم يفعلوا ذلك ، بطل هذيانهم بتغالب الأعمال وسقوط أقلها بأكثرها. ثم لا يبعد في العقل أن تكثر طاعات عبد ، وتصدر منه زلات ويعاقبه سيده عليها زمنا ثم يرده إلى كرامته ، وإن كانت زلاته أقل ، وكل ما ذكروه تحكم لا محصول له.
ثم التوبة ندم على ما نصفها ، ومن سعى في الأرض بالفساد عمره ، وثابر على انتهاك الحرمات دهره ؛ فالندم الواحد عليها يحبطها ، وإن كان لا يبلغ مبلغها في التعب والنصب ؛ فبطل كل ما قالوه.
فصل
الفرق بين الصغيرة والكبيرة
فإن قيل : قد ردّدتم ذكر الصغائر والكبائر ؛ فميزوا أحد القبيلين عن الثاني. قلنا : المرضي عندنا أن كل ذنب كبيرة ، إذ لا تراعى أقدار الذنوب حتى تضاف إلى المعصيّ بها ؛ فرب شيء يعد صغيرة بالإضافة إلى الأقران ، ولو صور في حق ملك لكان كبيرة يضرب بها الرقاب. والرب تعالى أعظم من عصي ، وأحق من قصد بالعبادة ، وكل ذنب بالإضافة إلى مخالفة الباري عظيم ، ولكن الذنوب وإن عظمت بما ذكرناه ، فهي متفاوتة على رتبها ، فبعضها أعظم من بعض. وهذا كحكمنا للأنبياء بالفضيلة وعلو المرتبة ، وبعضهم أعلى من بعض ؛ فهذا ما نرتضيه.
فإن قيل : من الذنوب ما لا يحط العدالة ، ولا يوجب درء الشهادة ؛ ومنها ما يدرؤها ؛ فميزوا ما ينافي العدالة عما لا ينافيها في أحكام الدنيا. قلنا : ليس ذلك الآن من غرضنا ؛ والكلام في الجرح والتعديل من مجال الفقهاء.
ثم نوجز قولا ، فنقول : كل جريرة تؤذن بقلة اكتراث مرتكبها بالدين ورقة الديانة ، فهي التي