مختلفون في تجويز الصغائر على الأنبياء. والنصوص التي تثبت أصولها قطعا ، ولا يقبل فحواها التأويل ، غير موجودة.
فإن قيل : إذا كانت المسألة مظنونة ، فما الأغلب على الظن عندكم؟ قلنا : الأغلب على الظن عندنا جوازها ، وقد شهدت أقاصيص الأنبياء في آي من كتاب الله تعالى على ذلك. فالله أعلم بالصواب.
فإن قيل : قد استوعبتم ما يليق بالمعتقد في النبوءات ، وأضربتم عن الرد على العيسوية. قلنا : إنما فعلنا ذلك لوضوح تناقض قولهم ، بأنهم التزموا شريعته ثم كذبوه ، وقد علمنا ضرورة أنه ادعى كونه مبتعثا إلى الثقلين وأرسل دعاته إلى الأكاسرة وملوك العجم. فوضح بهذا القدر سقوط مذهبهم ونجز به ما لا يسوغ جهله في النبوءات.
باب
اعلموا ، وفقكم الله تعالى ، أن أصول العقائد تنقسم إلى ما يدرك عقلا ، ولا يسوغ تقدير إدراكه سمعا؟ وإلى ما يدرك سمعا ، ولا يتقدر إدراكه عقلا ؛ وإلى ما يجوز إدراكه سمعا وعقلا.
فأما ما لا يدرك إلا عقلا ، فكل قاعدة في الدين تتقدم على العلم بكلام الله تعالى ووجوب اتصافه بكونه صدقا ؛ إذ السمعيات تستند إلى كلام الله تعالى ؛ وما يسبق ثبوته في الترتيب ثبوت الكلام وجوبا ، فيستحيل أن يكون مدركه السمع.
وأما ما لا يدرك إلا سمعا ، فهو القضاء بوقوع ما يجوز في العقل وقوعه ، ولا يجب أن يتقرر الحكم بثبوت الجائز ثبوته فيما غاب عنا إلا بسمع. ويتصل بهذا القسم عندنا جملة أحكام التكليف ، وقضاياها من التقبيح والتحسين والإيجاب والحظر ، والندب والإباحة.
وأما ما يجوز إدراكه عقلا وسمعا ، فهو الذي تدل عليه شواهد العقول ، ويتصور ثبوت العلم بكلام الله تعالى متقدما عليه. فهذا القسم يتوصل إلى دركه بالسمع والعقل. ونظير هذا القسم إثبات جواز الرؤية ، وإثبات استبداد الباري تعالى بالخلق والاختراع ، وما ضاهاهما مما يندرج تحت الضبط الذي ذكرناه. فأما كون الرؤية ووقوعها فطريق ثبوتها الوعد الصدق والقول الحق.
فإذا ثبتت هذه المقدمة ، فيتعين بعدها على كل معتن بالدين واثق بعقله أن ينظر فيما تعلقت به الأدلة السمعية ، فإن صادفه غير مستحيل في العقل ، وكانت الأدلة السمعية قاطعة في طرقها ، لا مجال للاحتمال في ثبوت أصولها ولا في تأويلها ـ فما هذا سبيله ـ فلا وجه إلا القطع به.
وإن لم تثبت الأدلة السمعية بطرق قاطعة ، ولم يكن مضمونها مستحيلا في العقل ، وثبتت أصولها قطعا ، ولكن طريق التأويل يجول فيها ، فلا سبيل إلى القطع ؛ ولكن المتدين يغلب على ظنه