ومما تمسكوا به أن قالوا : ألفينا الشرع عندكم مشتملا على أمور مستقبحة عقلا ، مع علمنا بأن الحكيم لا يأمر بالفواحش ، ولا يندب إلى القبائح ، قالوا : فمما تشتمل عليه الشرائع ذبح البهائم واستسخارها ، والعقل قاض بقبح ذلك ؛ قلنا : ما ذكرتموه ينعكس عليكم بإيلام الله تعالى البهائم والأطفال الذين لم يقترفوا ذنبا ولم يحتقبوا وزرا. فإن قالوا : ذلك عن الله حكمة ، قلنا : فما كان حكمة من فعله ، لم يبعد كون الأمر به أيضا حكمة ، وهذا القدر مغن في غرضنا.
وربما يشيرون إلى تخيلات لا يتشاغل بأمثالها لبيب ، فيقولون : في الشرائع ما تردع منه العقول ، كالانحناء في الركوع ، والانكباب على الوجه في السجود ، والتحسير ، والتعري ، والهرولة ، والتردد بين جبلين ، ورمي الجمار من غير مرميّ إليه ، إلى غير ذلك مما يهزءون به.
والوجه معارضتهم بما لا يجدون منه مخلصا ، فنقول : الرب تعالى قد يضطر عبده ويفقره ويعريه ، ويتركه كلحم على وضم والسوءة منه بادية ، ولو عرى واحد منا عبده مع تمكنه من ستره ومواراة سوأته لكان ملوما ، والرب تعالى يفعل من ذلك ما يشاء ، لا يسأل عما يفعل وهم يسألون. وهو الذي يسلب العقول ، ويضطر المجانين إلى ما يتعاطونه مما تبقى مضرته ، مع القدرة على أن يكمل عقولهم. فإذا لم يبعد ما ضربنا فيه الأمثلة ، أن يكون فعلا لله تعالى ، لم يبعد أيضا وقوعه مأمورا به.
فإن قالوا : إذا وقع ما ذكرتموه في أفعال الله تعالى ، ففيه مصالح خفية هو المستأثر بعلمها ، قلنا : فالتزموا مثل ذلك في الأمر بما استبعدتموه.
وللقوم شبه تتعلق بالمطاعن في المعجزات ، ونحن نذكر عمدهم منها في تضاعيف الكلام إن شاء الله عزوجل.
والدليل على جواز إرسال الله الرسل وشرع الملل ، أن ذلك ليس من المستحيلات التي يمتنع وقوعها لأعيانها ، كاجتماع الضدين ، وانقلاب الأجناس ونحوها ، إذ ليس في أن يأمر الرب تعالى عبدا بأن يشرع الأحكام ، ما يمتنع من جهة التحسين والتقبيح.
فإذا تبين ذلك ؛ قلنا : بعده مسلكان ؛ أحدهما أن ننفي أصل التقبيح والتحسين عقلا ، فلا يبقى بعده إلا القطع بالجواز ؛ والثاني أن نسلم التقبيح جدلا ، ونقول : الإرسال ليس مما يقبح لعينه ، بخلاف الظلم ، والضرر المحض ، ونحوهما ، ولا يتلقى قبحه بأمر يتعلق بغيره ؛ فإنه لا يمتنع أن يقع في المعلوم كون الانبعاث لطفا ، يؤمن عنده العقلاء ويلتزمون قضيات العقول ، ولولاه لجحدوا وعندوا. فهذا قاطع في إثبات جواز النبوءات.
ومن القواطع في ذلك إثبات المعجزات كما نصفها ، ودلالتها على صدق المتحدي. وإذا أوضحنا كونها أدلة على صدق مدعي النبوءة ، ففي ذلك أبين رد على منكري النبوءة.