حكمه ؛ فبينوا معاشر المعتزلة ما نسائلكم عنه وأوضحوا الوقت الذي تقرر الإرادة له ، والإرادة حادثة عندكم. فلا يكادون يضبطون في ذلك وقتا موقوتا ، ولا يلقون لأنفسهم ثبوتا.
شبهة أخرى للمعتزلة فمما تمسكوا به ، وفي ذكره والانفصال عنه تمهيد أصل متنازع فيه ، أن قالوا : الأمر بالشيء يتضمن كونه مرادا للآمر ، ويستحيل في قضية العقول أن يأمر الآمر بما يكرهه ويأباه ؛ وكذلك النهي عن الشيء يتضمن كونه مكروها للناهي ، ويستحيل أن يكون الناهي على حكم الحظر مريدا لما نهى عنه. وأكدوا ذلك بأن قالوا : الجمع بين الأمر الجازم ، وبين إبداء كراهية المأمور به متناقض ، وهو بمثابة الجمع بين الأمر بالشيء والنهي عنه ؛ إذ لا فرق بين أن يقول القائل : آمرك بكذا وأنهاك عنه ، وبين أن يقول : آمرك بكذا وأكره منك فعله. وإذا تبين أن كل مأمور به مراد للآمر ، فيخرج من ذلك كون الباري تعالى مريدا لإيمان من علم أنه لا يؤمن ، لأنه آمر له بالإيمان.
والجواب على ذلك من أوجه ؛ منها أن يتبين أن ما استبعدوه ، من كون الآمر كارها لما أمر به ، غير بعيد شاهدا. وقد ضرب المحصلون لما نبغيه أمثلة ، ونحن نجتزئ بواحد منها.
وهو أن الرجل إذا كان يؤدب عبيده ، ويبالغ في ردعهم وقمعهم ويبرح بهم ضربا ؛ فإذا استفاض خبره واتصل بسلطان الوقت ، وهمّ بأن يزجره ويبالغ في تأديبه ، فلما استحضره وبثّ إليه خبره قال معتذرا : إنما صدر مني ما صدر لاستعصاء عبيدي وتمردهم وإبدائهم صفحة الخلاف. فاتهم السلطان أمره ولم يثق بما قاله ، وبقي مستعر الصدر عليه ، فرام سيد العبيد تحقيق مقالته ونفي الظن عن أحواله ، وقال للسلطان : آية صدقي أني أستحضر عبيدي وآمرهم بمرأى منك ومسمع أمرا جازما تنتفي عنه جهات التأويلات ؛ فإن هم خالفوني وعصوا أمري ، استبان للملك صدقي ؛ وإن أطاعوني ، فأنا المتعرض لسخطه. فإذا استحضرهم ، وأمرهم ونهاهم وزجرهم ، فلا شك أنه يريد منهم أن يخالفوه ليتمهد عذره.
فإن قالوا : ما يصدر منه في الصورة المفروضة ليس بأمر على الحقيقة ، وليس الغرض منه اقتضاء الطاعة. قلنا : هذا جحد للضرورة فإن الأمر إذا بدر من السيد مقترنا بقرائن من أحواله قاطعة باقتضاء الطاعة ، بحيث لا يستريب فيه العبيد ، بل يضطرون إلى معنى الاقتضاء وموجب الطلب والابتغاء ، فكيف يمكن حمل الأمر المقترن بالقرائن على خلاف المعلوم من مقتضاه على البديهة والضرورة؟ وكيف لا يكون الأمر كذلك ، وإنما يتمهد عذر السيد إذا كان أمره جازما لا تردد في فحواه؟ ولو لم يكن الأمر كذلك ، لم تقبل معاذيره ، ولم يتسق تقديره.
ومما يدل على أن المأمور به لا يجب أن يكون مرادا للآمر ، أصل النسخ ؛ فإنه رفع للحكم بعد ثبوته ، ويستحيل تقدير كون المنسوخ مرادا. فإن الواجب إذا حظر وحرّم ، فيجب على أصل المعتزلة أن يعود ما كان مرادا مكروها ، وذلك غير سائغ في أحكام الله تعالى إجماعا ، وهو دال لو ثبت على البداء ، والرب تعالى متقدس عنه. فإذا ثبت أن النسخ يصادف مأمورا به ، وتقرر أن المراد لا ينقلب مكروها ؛ فيخرج من مضمون ذلك ، أن المأمور به أو لا لم يكن وقوعه مرادا للآمر.