فمما ذكروه أن قالوا : الرب تعالى قادر على إلجاء الخلق واضطرارهم إلى الإيمان ، بأن يظهر آية تظل لها أعناق الجبابرة خاضعة. وإنما كان يلزم وصفه بالقصور لو لم يكن مقتدرا على سوق الخلق اقتهارا وإقسارا إلى ما أراد.
وهذا الذي ذكروه تلبيس لا تحصيل له. فإنهم مطبقون على أن الرب لا يخلق إيمان المؤمنين وطاعة المطيعين ، وإنما المعنيّ بالإلجاء عندهم إظهار آيات هائلة يؤمن عندها الكفار. والذي ذكروه لا تحصيل له ؛ فإنه ربما يقع في المعلوم أن طوائف من الكفرة يصرون على كفرهم ولا يذعنون للحق ، وإن عظمت الآيات ، وهذا غير بعيد في جائزات العقول. والذي يقرره أن المعتزلة قالوا : رب عبد يعلم الرب تعالى أنه ليس في المقدور لطف يفعله الباري تعالى به فيؤمن عنده ، فإذا لم يكن ذلك بعيدا في اللطف ، لم يبعد في الآيات المخوفة.
والذي يقطع هذا التشغيب أن نقول : لو ألجئوا لما كان إيمانهم مثابا عليه عندكم ، ولو قدر ذلك لكان قبيحا ، والرب سبحانه لا يريد القبائح على زعمكم ، وإنما يريد الإيمان المثاب عليه. ومن ضرورة الاختيار انتفاء الإلجاء والاضطرار ، فالذي أراده لا يقدر على تحصيله ، والذي يقدر عليه يستحيل أن يريده ؛ تعالى الله عن قول الزائفين.
فإن قالوا : إذا جاز أن يكون ما نهى عنه ولا يكون ما أمر به ، فلا يمتنع أيضا أن يقع ما يكره ولا يقع ما يريد. وهذا ساقط من الكلام ؛ فإن ما لم يقع مما أمر به ، إنما لم يقع لأنه لم يرد أن يقع ، فلم يأت عدم الوقوع من صفة غيره فيلزم قصوره ؛ وإذا لم يقع ما أراد ، فقد أتى قصوره الإرادة من جهة غيره. فشتان بين ما ألزمونا به ، وبين ما ألزموه.
ومما يقوي التمسك به إجماع السلف الصالحين ، قبل ظهور الأهواء واضطراب الآراء ، على كلمة متلقاة بالقبول غير معدودة من المجملات المتأولات ، وهي قولهم : ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن.
ومما يطيش عقولهم ، اتفاق العلماء قاطبة على أن المديون القادر على إبراء ذمته ، إذا قال : والله لأقضين حق غريمي غدا إن شاء الله عزوجل ، فإذا انصرم الأجل المضروب والأمد المرقوب ولم يقضه ، فلم يحنث الحالف لاستثنائه بمشيئة الله ، وينزل ذلك منزلة ما لو قال : لأقضين حقه غدا إن شاء زيد ، ثم استبهمت مشيئته ولم يحط بها. فلو كان الرب تعالى مريدا لقضاء الدين لا محالة ، لتنزل ذلك منزلة ما لو قال : لأقضين حق غريمي غدا إن شاء زيد ، ثم شاء زيد ولم يقضه فيحنث لا محالة.
ومما يقوي إلزامه ، أن نقول : الرب تعالى عندكم يريد إيمان الكافرين ، وذلك واجب في