فإن قالوا : النسخ لا يتضمن رفع الحكم ، وإنما هو تبيين مدة العبادة على حكم التخصيص ؛ فهذا الذي ذكروه رد للنسخ جملة ، والتزام لمذهب منكريه من اليهود وغيرهم. وسنذكر النسخ وحقيقته ، والرد على جاحديه في النبوءات إن شاء الله عزوجل.
ومما تمسك الأئمة في أن المأمور به يجوز أن لا يكون مرادا للآمر ، قصة إبراهيم وولده الذبيح عليهماالسلام. فإنه صلىاللهعليهوسلم أمر بذبح ولده ، ولم يرد ذلك منه.
وللمعتزلة خبط في درء حجة الله تعالى لا يغنيهم عما أريد بهم. فمنهم من يقول : لم يكن إبراهيم عليهالسلام مأمورا بذبح ولده تحقيقا ، وإنما تخيل أمرا في حلمه وحسبه أمرا ؛ وهذا ازدراء عظيم على الأنبياء وحط من أقدارهم. وكيف يستجيز ذو دين أن ينسب إلى إبراهيم خليل الرحمن الإقدام على ذبح ولده من غير أمر جازم؟ وكيف يسوغ أن لا يحيط ولده علما بكونه مأمورا أو غير مأمورا؟ وتجويز ذلك يسقط الثقة بما ينقلون من أوامر الله تعالى.
ومنهم من يقول : إنما كان مأمورا بالشد والربط والتلّ للجبين وإرهاف المدية ، والتعرض لمقدمات الذبح ، دون الذبح. وهذا من الطراز الأول ؛ فإنا على اضطرار نعلم من اعتقاد القصة أن إبراهيم عليهالسلام ابتلي بذبح ولده ، ومن هذا عظم بلاؤه ، كما قال تعالى : (إِنَّ هذا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ) [سورة الصافات : ١٠٦] ، وافتداؤه بالذبح العظيم أعظم آية على ذلك. ولا يسوغ أن يعتقد النبي في أمر الله تعالى خلاف مقتضاه.
فإن قالوا : الدليل على أنه لم يكن مأمورا بالذبح ، أنه لما شد يديه ورجليه رباطا ، وتلّه للجبين ، قيل له : (قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا) [سورة الصافات : ١٠٥] ، فدل ذلك على امتثاله مقتضى الأمر وبلوغه منتهاه. وهذا غفلة منهم وذهول عن الحق ؛ فإنه ما قيل له : «حققت الرؤيا» ، بل قيل : (صَدَّقْتَ الرُّؤْيا) ، أي اعتقدت صدقها وابتدرت لما أمرت به ، فانحجز الآن عن إمضاء الأمر ؛ فقد رفع عنك ، وفدي ولدك عن الذبح المأمور به بالذّبح العظيم.
فإن قالوا : كان إبراهيم يقطع حلقوم ولده ويفري أوداجه ، وكان إذا قطع جزء التأم والتحم ما قبله ، ولم يزل الأمر كذلك حتى نفذت الشفرة من الجانب الثاني ، فقد أمر بالذبح وأريد منه ذلك ؛ وهذا الذي ذكروه افتراء عظيم وتخرص على معنى الكتاب. فإنه تعالى قال مخبرا عنهما : (فَلَمَّا أَسْلَما وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ ، وَنادَيْناهُ أَنْ يا إِبْراهِيمُ) [سورة الصافات : ١٠٣ ـ ١٠٤] الآية ؛ فاقتضى ظاهر الخطاب أنه كما تله ، نودي بالتخفيف ، وافتداؤه من الدلالات القاطعة على أنه لم يمتثل ما أمر به. ثم ما نقلوه لا يسمى ذبحا ، وإنما الذبح فصل الحلقوم والمريء وفري الأوداج ، مع بقائها على انفصالها إلى تتمة الذبح. فبطلت حيلهم ، واتجهت حجة الله عليهم.
وما ذكروه ، من تناقض الجمع بين الأمر بالشيء وإبداء كراهيته ، دعوى ، ولا تناقض عندنا في الجمع بينهما. وكيف يسوغ دعوى التناقض وأمر الله تعالى عام تعلقه بالمكلفين ، مع نصوص لا تقبل