الصادّ عن الاشتغال بما لا يغنى عن أمر الآخرة والمهمّ من العلم المزلف عند الله تعالى وقلت ؛ هذا من شأن البطّالين وشغل من لا يهمّه وقته ، ثم رأيت ذلك من قبيل ما فيه ترويح لهذه النفوس ، ومن حسن تعليلها بالمباح لمن ينشط إلى ما هى به أعنى ؛ ثم هو مهيع يسلكه الناس ، واعتنى به طائفة من العلماء ، وقيده جماعة من أهل التحصيل ، فلا حرج فى الاقتداء بهم بل أقول : أعوذ بالله من علم لا ينفع ، وأستغفره وأستقيله وأسأله التجاوز عن الهفوات ، والصفح عن الاشتغال بما لا يفيد فى الآخرة ، فيا ربّ عفوا عن اقتراف ما لا رضى لك فيه فأنت على كل شىء قدير!» (٦٨).
ولا يخلو من طرافة أن نلاحظ من سياق عبارة المقدمة كيف أن مؤلفا من أهل القرن الخامس عشر يجد من الضرورى بالنسبة له أن يبرر اشتغاله بالمسائل الجغرافية مستشهدا فى ذلك بالآيات القرآنية شأنه فى هذا شأن مؤلفى القرنين التاسع والعاشر ، بل وأن نلاحظ كذلك كيف يحاول هذا المؤلف عن طريق الخشية غير المستترة أن يبرر اشتغاله بالعلوم «الدنيوية» شأنه فى هذا شأن ياقوت تماما. ويشبه «الروض المعطار» معجم ياقوت فى أنه يمثل مجموعة من التعليقات التى تتفاوت طولا وقصرا وتعالج الكلام عن المدن والمواضع والجبال والأنهار والأقطار مرتبة وفق حروف المعجم ؛ وهو يمثل فى ذات الوقت رسالة فى الجغرافيا الوصفية ومجموعة من «العجائب» Mirabilia وتاريخا سياسيا لفترة معينة من الزمان وخزينة أدبية تحوى مجموعة كبيرة من النثر والشعر. ورواياته عن المشرق العربى مع أنها كبيرة العدد إلا أنها لا تبلغ حجم مادته عن إفريقيا والمغرب والأندلس.
ونظرا لما وجهه من نقد شديد للإدريسى فمن العسير الاعتقاد بأنه يعتمد كثيرا على مصنف الأخير ، غير أن الفحص والتحليل أثبتا أن مؤلفنا قد نقل من «نزهة المشتاق» القسم الذى يعالج الكلام على أسبانيا برمته ؛ وهذا أمر له أهميته إذ أننا نجد أنفسنا والحالة هذه أمام متن جديد للإدريسى يمكن أن يمثل أهمية كبرى عند تحقيق كتاب «نزهة المشتاق» وإعداده للنشر. وبنفس القدر نقل الحميرى من «كتاب المسالك والممالك» للبكرى ، وإذا وضعنا جيدا فى اعتبارنا أنه لم يتم حتى الآن الكشف عن القسم الذى يعالج الكلام عن الأندلس من ذلك الكتاب فإن قيمة الشذرات من كتاب الحميرى التى تعالج هذا الموضوع ترتفع بشكل ملحوظ. أما المصدر الثالث الذى اعتمد عليه الحميرى اعتمادا أساسيا فى هذا المجال فهو رسالة مجهولة المؤلف من القرن الثانى عشر معروفة لنا جيدا ، أعنى «كتاب الاستبصار». هذا وتمثل المادة التاريخية لدى الحميرى فى كثير من الأحايين أهمية ليست بالضئيلة ، وقد دلل ليفى بروفنسال على أن روايته عن معركة الزلّاقة الفاصلة فى نهاية القرن الحادى عشر الميلادى تعتبر من أوفى وأفضل ما دوّن فى هذا الصدد (٦٩) ؛ كما حدث وأن أشرنا فى حينه إلى فضل الحميرى فى حل المشكلة المتعلقة برحلة إبراهيم بن يعقوب الطرطوشى إلى بلاد الصقالبة. والحميرى بالطبع كاتب نقالة شأنه فى هذا شأن بقية المؤلفين العرب وإليه يرجع فضل كبير فى حفظ عدد من الروايات لمؤلفين مختلفين لولاه لكانت فى حكم المفقودة.