شموسا وأقمارا ؛ جعلها ذلولا ، وأوسعها عرضا وطولا ، وأمتع بها شيبا وشبابا وكهولا ، وعاقب عليها غيوثا وقبولا ، وأغرى بالمشى فى مناكبها تسويغا للنعمة الطولى ، وتتميما لإحسانه الذى نرجوه فى الآخرة والأولى ، إن فى ذلك لعبرة لمن صار له قلب وسمع وبصر وفهم منقولا ومعقولا ، إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا ؛ أحمده على جزائل آلائه التى والى إمدادها ، وأحصى أعدادها ، وعم بها البرية وبلادها ؛ وصلى الله على نبيه الكريم الذى زويت له الأرض فرأى غايتها ، وأبصر نهايتها ؛ وأخبر أن ملك أمته سيبلغ ما رآه ، وينتهى إلى حيث قدره الخالق وأنهاه.
وبعد فإنى قصدت فى هذا المجموع ذكر المواضع المشهورة عند الناس من العربية والعجمية ، والأصقاع التى تعلقت بها قصة ، أو كان ذكرها فائدة ، أو كلام فيه حكمة ، أو لها خبر طريف ، أو معنى يستملح أو يستغرب ويحسن إيراده ، أما ما كان غريبا عند الناس ، ولم يتعلق بذكره فائدة ، ولا له خبر يحسن إيراده ، فلا ألم بذكره ، ولا أتعرض له غالبا استغناء عنه واشتغالا لذكره ؛ ولو ذهبت إلى إيراد المواضع والبقاع على الاستقصاء لطال الكتاب ، وقلّ إمتاعه ؛ فاقتصرت لذلك على المشهور من البقاع وما فى ذكره فائدة ونكتفى عما سوى ذلك ، ورتبته على حروف المعجم لما فى ذلك من الإحماض المرغوب فيه ، ولما فيه من سرعة هجوم الطالب على اسم الموضع الخاص من غير تكلف عناء ولا بحشم تعب ؛ فقد صار هذا الكتاب محتويا على فنيين مختلفين : أحدهما ذكر الأقطار والجهات ، وما اشتملت عليه من النعوت والصفات ؛ وثانيها الأخبار والوقائع والمعانى المختلفة بها ، الصادرة عن مجتليها ؛ واختلست ذلك ساعات زمانى ، وجعلته فكاهة نفسى ؛ وأنصبت فيه فكرى وبدنى ؛ ورصنته حتى انقاد للعمل ، وجاء حسب الأصل ، فأصبح طاردا للهموم ، ملقيا للغموم ، وشاهدا بقدرة القيوم ؛ مغنيا عن مؤانسة الصّحب ، منبها على حكمة الرب ؛ باعثا على الاعتبار ، مستحضرا لخصائص الأقطار ؛ مشيرا لآثار الأمم وأحداثها ، مشيرا إلى وقائع الأخبار وأنبائها ؛ ثم إنى قسمة؟؟؟ بالكتاب الأخبارى المسمى بنزهة المشتاق فوجدته أعظم فائدة وأكثر أخبارا وأوسع فى فنون التواريخ وصنوف الأحداث مجالا حتى فى وصف البلاد فإنه إنما ذكر نبذة منها وشيئا قليلا فى مواضع مخصوصة معدودة ، بل إنما عظم حجمه بما اشتمل عليه من قوله : «من فلانة إلى فلانة خمسون ميلا أو عشرون فرسخا ، ومن فلانة إلى فلانة كذا وكذا» ، أما الخبر عن الأصقاع مما يحسن إيراده ويلذّ سماعه ، من خبر ظريف ، أو وصف يستغرب أو يستملح ، فإنما يوجد فيه فى مواضع قليلة معدودة ، إلى غير ذلك من عسر وجدان الناظر فيه بمطلوبه بأول وهلة بل بعد البحث والتفتيش.
وجعلت الإيجاز فى هذا الكتاب قصدى ، وحرصت على الاختصار جهدى ؛ حتى جاء نسيج وحده ، مليحا فى فنه ، غريبا فى معناه ، مبهجا للنفوس المتشوّقة ، ومذهبا للأفكار المحرقة ؛ مؤنسا لمن استولى عليه الانفراد ورغب عن معاشرة الناس ، ومع هذا فقد لمت نفسى على التشاغل بهذا الوضع