مدخل
١ ـ عرض عام
ان المكانة المرموقة التى تشغلها الحضارة العربية فى تاريخ البشرية لأمر مسلم به من الجميع فى عصرنا هذا ؛ وقد وضح بجلاء فى الخمسين عاما الأخيرة فضل العرب فى تطوير جميع تلك العلوم التى اشتقت لنفسها طرقا ومسالك جديدة فى العصور الوسطى ولا زالت حية إلى أيامنا هذه ـ أعنى علوم الفيزياء والرياضيات والكيمياء والبيولوجيا والجيولوجيا. أما فيما يتعلق بالأدب الفنى العالمى فإن العرب قد أسهموا فيه بنصيب وافر يمثل جزءا أساسيا من التراث العام للبشرية ، كما امتد تأثيرهم كذلك إلى عدد كبير من المصنفات والفنون الأدبية التى نشأت فى بيئات غير عربية.
وبالطبع ليس فى وسع جميع الفنون المختلفة للأدب العربى الحافل أن تدعى لنفسها مكانة واحدة من حيث القيمة ومن حيث الأهمية العلمية ؛ وإذا كان بعضها مثل علم اللغة والعلوم الشرعية يمثل موضوعا لدراسات المتخصصين ، الأمر الذى لا يمنع بالطبع من أهمية استقراءاتهم فى حالات معينة بالنسبة للنواحى العريضة فى تاريخ الحضارة ، إلا أن عددا من فروع الأدب العربى قد اكتسب أهمية تجاوزت بكثير حدود اختصاصاته الضيقة. ولعل هذا يصدق قبل كل شىء على الأدب التاريخى والجغرافى العربى الذى اعترف العلماء به منذ عهد بعيد بأنه المصدر الأساسى والموثوق به فى دراسة ماضى العالم الإسلامى ، إذ تتوفر فيه مادة لا ينضب معينها لا للمؤرخ أو الجغرافى فحسب ، بل أيضا لعلماء الاجتماع والاقتصاد ومؤرخى الأدب والعلم والدين ، وللغويين وعلماء الطبيعة. ولا يقتصر محيط الأدب الجغرافى العربى على البلاد العربية وحدها بل يمدنا بمعلومات من الدرجة الأولى عن جميع البلاد التى بلغها العرب أو التى تجمعت لديهم معلومات عنها ، وذلك بنفس الصورة المتنوعة التى وصفوا بها بلاد الإسلام. وقد يحدث أحيانا أن تمثل المادة الجغرافية العربية إما المصدر الوحيد أو الأهم لتاريخ حقبة معينة لقطرما. فمثلا فيما يتعلق بتاريخ إيران فى عهد الساسانيين ـ وهو نفس العصر الذى تمثله تلك الآثار البديعة المحفوظة لدينا بمتحف الارمتاج Ermitage بلنينغراد ـ نجد أن المادة الأساسية قد حفظها لنا المؤلفون العرب. لذا فليس من الغرابة فى شىء إذا صرحنا بأن هذا الأدب يوشك أن يكون المعين الأول الذى يرده مختلف المتخصصين من غير المستعربين وأن يصل الاهتمام به إلى درجة عالية. هذا الاهتمام يبرره الغنى الهائل لهذا الأدب ؛ ولتكوين فكرة عن ضخامته نذكر مثلا أن مؤرخ الأندلس الذى عاش فى القرن السابع عشر وهو المقرّى قد أورد أسماء مائتين وثمانين شخصا