الفصل السّادس
المسعودى والرحالة الذين زاروا الأصقاع الشمالية فى القرن العاشر
يعتبر القرن العاشر من الناحية السياسية عصر الاضمحلال النهائى للخلافة الإسلامية ، ولكن من ناحية أخرى يعتبر أيضا عصر ازدهار الحضارة العربية أو «النهضة الإسلامية» Renaissance of Islam كما حلى لأحد المستشرقين أن يسميه (متزMetz). وفى القرن العاشر كذلك بلغ الأدب الجغرافى العربى أوجه فى مجال تطوره الخلاق كحركة مستقلة قائمة بذاتها. وهو يذخر بمصنفات هامة فى محيط الجغرافيا الإقليمية ، غير أن الإنتاج الأدبى فيه لم يقف عند هذا الحد فقد تم فى هذا القرن أيضا تشكيل ما يسمى «بالمدرسة الكلاسيكية» للجغرافيا العربية ، كما شهد أيضا ميلاد أكثر آثار الكارتوغرافيا العربية أصالة وهو «أطلس الإسلام». وقد بلغ عدد الرحالة فى هذا القرن حدا كبيرا ، غير أن المهم بالنسبة لنا هو أن بعضهم قد جالوا فى بعض أصقاع اتحادنا السوفيتى أو الأصقاع المتاخمة لها. وفى هذا العصر بالذات نفذت الجغرافيا إلى الأنماط الأدبية المقاربة لها وأفرد لها مكان فى دوائر المعارف وفى المصنفات الببليوغرافية وفى معاجم المصطلحات ، كما ارتبطت ارتباطا وثيقا بالموضوعات الأدبية والعرض الأدبى. وإلى جانب كل هذا يقدم لنا القرن العاشر شخصيات كبرى ذات جوانب متعددة ليست هى شخصيات جغرافية بالمفهوم الضيق للفظ.
ويحتل المكانة الأولى بينهم دون منازع المسعودى (١) «أكثر الكتاب الجغرافيين أصالة فى القرن العاشر» ، على حد قول واحد من أفضل المتخصصين فى هذا الفرع من الأدب فى عصرنا (١). غير أن آراء العلماء حوله أبعد من أن تتسم بطابع الإجماع ، فخبير آخر بالجغرافيا العربية ـ لا يخلو فى الحقيقة من بعض الميل إلى التناقض ـ يرى فى أسلوبه «قرابة ورحما مع أسلوب الصحافة الحديثة» ، وفى شخصه «أنموذج المراسلين الصحفيين المعاصرين الذين يذرعون الأرض» (٢). هذا الحكم يقف دليلا آخر على عدم جدوى أمثال هذه المقارنات المبالغ فيها بين القديم والحديث ، ولا يزال أفضل منهج لمعرفة شخص ما أو إلقاء ضوء على حياته هو التحليل الدقيق للظروف التى عاش فيها.
والمسعودى عربى صرف يرتفع نسبه إلى الصحابى مسعود ؛ وقد ولد على ما يظهر ببغداد فى بداية القرن العاشر وأحاط إحاطة تامة بكل التراث الأدبى لعصره وبمختلف نواحى العلوم. غير أن ميدانه
__________________
(*) فى يناير من عام ١٩٥٨ أقيمت احتفالات بجامعة عليكرة بالهند بمناسبة مرور ألف عام على المسعودى وصدر بهذه المناسبة كتاب بعنوان : Al. Masudi Millenary Commemoration Volume, ٠٦٩١.
يحوى عددا من الأبحات الجيدة عنه. (المترجم)