العامية والإفراط فى استعمال الألفاظ المحدثة كما أنها لا تخلو من الأخطاء النحوية ؛ وليس من النادر أن يحيط الغموض ببعض ألفاظه من وقت لآخر. وإذا حدث وان عد ابن خلدون يوما ما مؤلفا كلاسيكيا بمصر وسوريا فإن مرد هذا إلى التدهور الذى بلغه الأدب العربى حينما ظهرت الطبعة الأولى «للمقدمة». وقد كفلت له أفكاره الجديدة التى عبر عنها فى لغة مغايرة للغة عصره نجاحا أدبيا دام حينا من الدهر (٤٥) ، ولكن هذه المكانة أخذت تهبط منذ بداية القرن العشرين حينما اتفق العلماء العرب المعاصرون مع الرأى القديم لدى سلين (٤٦) وأمارى (٤٧) القائل بعدم اعتباره كاتبا كلاسيكيا وذلك رغما من الطرافة الكبرى التى تتمتع بها نظرياته (٤٨).
ومن خلال سيرة حياة ابن خلدون نستطيع أن نتبين إلى أى حد ظلت الروابط الثقافية قائمة بين المغرب ومصر فى القرن الخامس عشر رغما من انقسام العالم الإسلامى إلى عدد من الوحدات السياسية ؛ ويبدو أنه كان باستطاعة العلماء أن ينتقلوا دون أى جهد من بلد إلى آخر وأن يقيموا أمدا طويلا أو قصيرا فى مختلف الأماكن دون الإحساس بتغير كبير فى الوسط. وما يصدق على العلماء يصدق أيضا على الرحالة العاديين فقد ظل الاتصال مع الأندلس مثلا قائما طوال القرن الخامس عشر وإلى آخر أيام دولة غرناطة فاتجه عدد من الرحالة من المشرق صوب الأندلس يدفعهم إلى ذلك مجرد حب الاستطاع أو كما كان عليه الحال من قبل «طلب العلم» الذى كانت مراكزه لا تزال مضيئة هناك (١).
وإحدى تلك الرحلات التى اتجهت من مصر صوب المغرب والأندلس فى النصف الثانى من القرن الخامس عشر قام بها عبد الباسط بن خليل الملطى (٤٩) ، ووالده هو خليل الظاهرى (٥٠) أحد كبار الإداريين بدولة المماليك ومؤلف المدخل الإدارى الجغرافى الذى سيأتى الكلام عليه فى موضعه. وإذا أمكن أن نستدل من نسبته على أنه ولد بالشام ، وذلك فى عام ٨٤٤ ه ـ ١٤٤٠ (٥١) ، إلا أنه نال تعليمه بمصر وأحس وهو فى سن مبكرة بميل خاص إلى دراسة الطب. ولما كان المغرب فى ذلك العهد لما يزل محتفظا بشهرته فى مجال دراسة الطب فقد عقد عبد الباسط العزم وهو لا يزال فى ريعان شبابه على السفر اليه لتوسيع معارفه. وتحت ستار التجارة غادر الإسكندرية على ظهر سفينة جنوية فى عام ٨٦٦ ه ـ ١٤٦٢ فزار نونس وطرابلس وتلمسان ووهران. ومن وهران أخذ سفينة جنوية أيضا فى ديسمبر من عام ١٤٦٥ فنزل بمالقه وغادرها إلى بلش Veles فالحمّة حتى بلغ غرناطة التى كانت تمثل منذ عهد طويل المركز الوحيد الذى تيقى للإسلام بأسبانيا. ويبدو أن الطريق الذى سلكه قد أصبح منذ وقت
__________________
(*) بمناسبة انتهاء كلام المؤلف على ابن خلدون أرى أن ألفت النظر إلى أن ابن خلدون قد ذكر فى ترجمته لسيرة حياته «التعريف» أن تيمورلنك كلفه بأن يكتب له وصفا دقيقا لبلاد المغرب ففعل ذلك «فى مختصر وجيز يكون قدر ثنتى عشرة من الكراريس المنصفة القطع» (ص ٣٧٠) ؛ غير أن هذا الأثر لم يصل إلينا. وعلى أية حال فإن القصة فى حد ذاتها تقف دليلا جديدا على اهتمام ابن خلدون بالجغرافيا. (المترجم)