عن طريق الإدريسى نفسه. ولإعطاء مثال جيد لهذا نذكر موقفه من قصة رؤيا الواثق التى كانت سببا فى رحلة سلام الترجمان ، فهو يقول إن هذه الرواية موجودة «فى حكاية طويلة ليست من مقاصد كتابنا هذا» (٣٤).
كل هذا يضطرنا إلى الاعتراف بأن القسم المكرس لتصنيف العلوم ووصفها فى «المقدمة» والقسم الخاص بالجغرافيا لا يقدمان شيئا ذا أهمية بالنسبة لتاريخ الأدب الجغرافى. ولحسن الحظ فإن هذين القسمين لا يستنفذان جميع المادة الجغرافية عند ابن خلدون ذلك أن كتابه يعد مصدرا جغرافيا هاما (٣٥) ففى فصول أخرى من «المقدمة» تتناثر أفكار تتميز بالأصالة والجدة حتى بالنسبة للأدب الجغرافى العربى نفسه. وفى هذا المجال فإن «المقدمات» الأخرى التى تلى «المقدمة الثانية» المتضمنة للقسم الجغرافى تمثل أهمية لا ريب فيها. «فالمقدمة الثالثة» مثلا تبحث «فى المعتدل من الأقاليم والمنحرف وتأثير الهواء فى ألوان البشر» (٣٦) وتبحث الرابعة «فى أثر الهواء فى أخلاق البشر» (٣٧) والخامسة «فى اختلاف أحوال العمران فى الخصب والجوع وما ينشأ عن ذلك من الآثار فى أبدان البشر وأخلاقهم» (٣٨).
كل هذه المسائل التى تبحث فى أثر الإقليم (٣٩) والوسط الجغرافى (٤٠) فى حياة البشر لم يحدث أن أخضعت قبل ابن خلدون لفحص منظم ، فهو فى هذا المضمار يجب أن يعد مجددا بلا ريب ومثل أفكاره هذه لم تظهر فى أوروبا إلا بعد مضى عدة قرون وذلك ابتداء من مونتسكيوMontesquieu (٤١).
أما بالنسبة للجغرافيا الاقتصادية فإن عددا من أقسام «المقدمة» يمتاز أيضا بقيمة لا تجارى وهذا يصدق مثلا على الفصل الثانى «فى العمران البدوى والأمم الوحشية والقبائل (٤٢)» ، وعلى الفصل الرابع «فى البلدان والأمصار وسائر العمران وما يعرض فى ذلك من الأحوال (٤٣)» ويصدق كذلك على الفصل الخامس «فى المعاش ووجوهه من الكسب والصنائع وما يعرض فى ذلك كله من الأحوال» (٤٤). واهتمام ابن خلدون بالأمم شبه المتحضرة يمثل واقعة نادرة فى الأدب الجغرافى العربى ، وبوسع علماء الاثنوغرافيا المعاصرين أن يجدوا مادة قيمة فى تصنيفه للأجناس كما وأن القسم المفرد للبربر من تاريخه قد تم الاعتراف به بحق كأقيم ما فى مصنفه. ويمكن القول بأنه لا علماء الأجناس ولا علماء الاقتصاد ولا علماء الاجتماع قد فرغوا من دراسة ابن خلدون من وجهات نظرهم المختلفة ، كما أن كلا من المؤرخ وعالم الجغرافيا يستطيع الكشف عن الكثير إلهام لدى ابن خلدون. وعلى الرغم من ذلك فإنه يجب القول مرة ثانية بأن ابن خلدون لا يحتل مكانة ممتازة فى التطور العام للأدب الجغرافى العربى كما أنه لم يترك أى أثر فى هذا الميدان على الأجيال التالية له.
أما من ناحية أسلوبه الكتابى فإن ابن خلدون أبعد من أن يعد نموذجا يحتذى ؛ وكما هو الحال مع جميع معاصريه فإنه تنعكس فيه بوضوح آثار عصر التدهور التى تبدو فى غلبة السجع والمحسنات البديعية والتشبيهات والاستعارات المبالغ فيها ، بل إن لغة ابن خلدون نفسها لم تسلم أحيانا من الألفاظ