تلك البلاد وذلك لجهله باللغات المحلية. لكل هذا فإن رواية ابن بطوطة حتى
فى حالات قصوى مثل هذه لم تعد تثير الشكوك فى نفس البحاثة المعاصرين كما كان الحال
عليه من قبل ، خاصة وأن رواياته عن مواضع مجاورة كجزر ملديف مثلا قد وكد الرحالة
المتأخرون صحتها برمتها .
ومن الطريف أن
نسوق ملاحظة لابن خلدون فى هذا الصدد ، خاصة وأن ابن خلدون من المؤلفين العرب
القلائل الذين ذكروا اسم ابن بطوطة بل والتقى به شخصيا. ففى «مقدمته» المشهورة ،
وفى الفصل منها الذى يبحث «فى أن آثار الدولة كلها على نسبة قوتها فى أصلها» يذكر
فيما يذكر :
«ورد بالمغرب
لعهد السلطان أبى عنان من ملوك بنى مرين رجل من مشيخة طنجة يعرف بابن بطوطة كان
رحل منذ عشرين سنة قبلها إلى المشرق وتقلب فى بلاد العراق واليمن والهند ودخل
مدينة دهلى حاضرة ملك الهند وهو السلطان محمد شاه واتصل بملكها لذلك العهد وهو
فيروزجوه وكان له منه مكان واستعمله فى خطة القضاء بمذهب المالكية فى عمله ثم
انقلب إلى المغرب واتصل بالسلطان أبى عنان وكان يحدث عن شأن رحلته وما رأى من
العجائب بممالك الأرض وأكثر ما كان يحدث عن دولة صاحب الهند ويأتى من أحواله بما
يستغر به السامعون ، مثل أن ملك الهند إذا خرج إلى السفر أحصى أهل مدينته من
الرجال والنساء والولدان وفرض لهم رزق ستة أشهر تدفع لهم من عطائه وأنه عند رجوعه
من سفره يدخل فى يوم مشهود يبرز فيه الناس كافة إلى صحراء البلد ويطوفون به وينصب
أمامه فى ذلك الحقل منجنيقات على الظهر ترمى بها شكائر الدراهم والدنانير على
الناس إلى أن يدخل إيوانه ؛ وأمثال هذه الحكايات فتناجى الناس بتكذيبه ولقيت
أيامئذ وزير السلطان فارس بن وردار البعيد الصيت ففاوضته فى هذا الشأن وأريته
إنكار أخبار ذلك الرجل لما استفاض فى الناس من تكذيبه فقال لى الوزير فارس إياك أن
تستنكر مثل هذا من أحوال الدول بما أنك لم تره فتكون كابن الوزير الناشئ فى السجن
وذلك أن وزيرا اعتقله سلطانه ومكث فى السجن سنين ربى فيها ابنه فى ذلك المحبس فلما
أدرك وعقل سأل عن اللحم الذى كان يتغذى فقال له أبوه هذا لحم الغنم؟ فقال وما
الغنم ، فيصفها له أبوه بشياتها ونعوتها؟ فيقول يا أبت تراها مثل الفار ، فينكر
عليه ويقول أين الغنم من الفار! وكذا فى لحم الإبل والبقر إذ لم يعاين فى محبسه من
الحيوانات إلا الفار فيحسها كلها أبناء جنس الفار وهذا كثيرا مما يعترى الناس فى
الأخبار كما يعتريهم الوسواس فى الزيادة عند قصد الإغراب كما قدمناه أول الكتاب
فليرجع الإنسان إلى أصوله وليكن مهيمنا على نفسه ومميزا بين طبيعة الممكن والممتنع
بصريح عقله ومستقيم فطرته فما دخل فى نطاق الإمكان قبله وما خرج عنه رفضه وليس
مرادنا الإمكان العقلى المطلق فإن نطاقه أوسع شىء فلا يفرض حدا بين الواقعات وإنما
مرادنا الإمكان بحسب المادة التى للشىء فإنا إذا نظرنا أصل الشىء وجنسه وصنفه
ومقدار عظمة قوته أجرينا الحكم من نسبة ذلك على أمواله وحكمنا بالامتناع على ما
خرج من نطاقه وقل رب زدنى علما وأنت أرحم الراحمين والله سبحانه وتعالى أعلم»