من هذا يتبين أن عالمين ، أحدهما ابن خلدون فى القرن الرابع عشر والآخر ياماموتو فى القرن العشرين ، قد وصلا فى الحقيقة إلى استنناج واحد مؤداه أنه من المستحيل رفض رواية ابن بطوطة على أساس أنها تتناقض مع الواقع ؛ ويميل العلم الأوروبى الحديث إلى أن يقف نفس هذا الموقف من ابن بطوطة.
ووضع ابن بطوطة فى تاريخ الأدب الجغرافى واضح للعيان فهو لم يكن جغرافيا نقالة أو من أصحاب الموسوعات أو من الأدباء بل كان شخصا عاديا للغاية لا يتمتع بأية مواهب خاصة ولا تنعكس فى رواياته أفكار عميقة أو ملاحظات دقيقة وكثيرا ما نلتقى لديه بأمثلة لتصديق أكثر الروايات إغرابا فى الخيال. وعلى الرغم من كل هذا فهو شخص شاهد الكثير وعرف كيف يصور ما شاهده بدقة وبساطة (١٢٠) ؛ وقد جعلت منه الأقدار جغرافيا على الرغم منه إن صح هذا التعبير وصنعت منه لونا من الرحالة نادرا عند العرب ذلك هو الرحالة الذى يستهدف الرحلة لذاتها ويضرب فى مجاهل الأرض استجابة لعاطفة لا تقاوم ورغبة جارفة للتعرف على الأقطار والشعوب. وهو على نقيض الغالبية العظمى من الجغرافيين العرب لم يجمع مادته من صفحات الكتب بل جمعها عن طريق التجربة الشخصية وعن طريق محادثاته مع شخصيات تعرف عليها عرضا فى خلال رحلاته. وقد شغل اهتمامه بالمواضع الجغرافية مكانة ثانوية بالنسبة لاهتمامه بالبشر ، وهو بالطبع لم يفكر فى أن يجرى أى نوع من البحث والتحقيق فى مجال الجغرافيا ولعله نتيجة لهذا قد أصبح كتابه نسيج وحده كوصف للمجتمع الإسلامى والشرقى عامة فى القرن الرابع عشر. فهو خزانة تحفل بمادة غنية لا فى مجال الجغرافيا التاريخية أو تاريخ عصره فحسب بل عن جميع حضارة ذلك العهد ، فتراه يعرض لجميع الظواهر الاجتماعية بالسرد حتى تلك التى يهملها المؤرخون عادة فتمر أمام أنظارنا مراسيم البلاطات الأجنبية وأزياء الشعوب المختلفة وتقاليدها وحرفها وأصناف الأطعمة والأغذية. فهو بهذا ليس كتابا نظريا جافا بل على العكس من ذلك يفيض بالإنسانية والحيوية ولا يبخل فيه المؤلف بملاحظاته وتعليقاته فى أية مناسبة تعرض ؛ وهو لا يمثل وثيقة ممتازة لتجربة فردية فحسب بل يقدم كذلك نموذجا صادقا لأفكار وتصورات مواطن إسلامى من أهل القرن الرابع عشر (١٢١).
ولما كان للنثر الفنى الغلبة فى الأدب العربى فلم يكن من الغريب ألا يتمتع مصنف ابن بطوطة فى القرون التالية بالرواج ، فقد وقف منه العلماء المتزمتون موقف التحفظ وطرحوه جانبا على أنه ضرب من الحكايات والأساطير الشعبية ، بل وليس فى علمنا أن أحدا من المؤلفين المتأخرين قد أشار إليه مجرد إشارة إذا استثنينا الموجز الذى وضعه للكتاب فى القرن الحادى عشر الهجرى (السابع عشر الميلادى) شخص يدعى البيلونى وتعرفت عليه أوروبا قبل أن يتعرف عليه العالم العربى. وفى العصر الحديث فقط ، وذلك بفضل الطبعة الأوروبية للمصنف والتى أعيد طبعها مرارا بالشرق ، بدأ أصل الكتاب يجد طريقه شيئا فشيئا إلى الأوساط العربية المثقفة فى صورة مختارات مدرسية وكتب للمطالعة فى أغلب الأحيان. وخير مثال لها تلك الكتيبات الثلاثة التى أخرجها فى سلسلته المعروفة فؤاد افرايم البستانى (عام ١٩٢٧).