المحدثين من الجغرافيين العرب الآخرين ، فالبحاثة الأول الذين تعرفوا على المتن الأصلى لابن بطوطة بصورة مباشرة مثل كوزغارتن Kosegarten ولى Lee قد وثقوا ثقة تامة فى صدق روايته ثم أعقب ذلك فترة من التشكك بلغت غايتها فى موقف النقد المتطرف الذى وقفه يول Yule من ابن بطوطة ؛ وأخيرا وفى القرن العشرين نلحظ بداية عهد من الاعتراف بقيمته من جديد أخذ يكتسب الأنصار يوما بعد يوم. وتتمثل وجهة النظر الأخيرة فى أن ابن بطوطة يعكس بدقة وإخلاص العصر والوسط اللذين عاش فيهما وذلك على ضوء الظروف الحضارية السائدة آنذاك.
وبالطبع فابن بطوطة رجل مسلم قح من أهل القرن الرابع عشر ولكنه كان أكثر قربا إلى المعتقدات الشعبية منه إلى العقيدة الرسمية ، أعنى المعتقدات السائدة فى المغرب ؛ وهو لم يلق بالا لجوانب الحياة التى تهم عصرنا نحن. وقد احتلت المكانة الأولى بالنسبة له المسائل المتعلقة بالعبادة والأولياء والدراويش فاعتقد فى صحة الكرامات التى حكيت له أو التى حدثت له هو نفسه ، ولعله من اليسير تفسيرها على ضوء الانخداع النفسى والسلوك الجماهيرى (Mass hypnosis) الذى شهده بنفسه فى الهند أوردّها ببساطة إلى المبالغة التى ينساق إليها بسهولة جميع الرحالة فى كل العصور. فإن أسقطنا من حسابنا هذه العوامل فإن روايته بوجه عام جديرة بالثقة أو أنه على الأقل قد روى ما اعتقده الحق. أما الأخطاء التى وقع فيها فليست بالقليلة ويجب ألا يغيب عنا أنه لم يكن على معرفة بلغات البلاد العديدة التى زارها ، وهو فيما عدا العربية كان ملما ببعض الفارسية وربما التركية كذلك إلا أن معرفته بلغات الهند وقفت فى الواقع عند حد ألفاظ معدودة كان يحب أن يعرضها من حين لآخر ولكن التوفيق جانبه فى معظم الأحوال. وفى اتصالاته بالسكان المحليين لم يكن من النادر أن يلجأ إلى الاستعانة بمترجم ما ، ولا يخفى بالطبع النتائج التى تترتب على هذا إذ كثيرا ما تسرب الخطأ إلى أسماء البلاد الأجنبية التى يذكرها أثناء سيره كما أنه ليس من المستبعد أن يختلط لديه ترتيبها ، زد على هذا أن التتابع الزمنى للرحلة غير منتظم وأن التواريخ تبدو كأن المحرر قد وضعها خبط عشواء ؛ ونفس هذه المجموعة من الأخطاء وجدت طريقها إلى الاستطرادات التاريخية. لكل هذا فإنه يجب ألا يغرب عن الذهن أن ابن بطوطة لم يكن عالما نقالة بل اعتمد اعتمادا مطلقا على ذاكرته ، وهو كان يتمتع حقا بذاكرة ممتازة شأنه فى هذا شأن جميع ممثلى الثقافة العربية لذلك العهد. وبعد فيجب الاعتراف بأن مقدار الأخطاء الزمانية (أى فى التواريخ chronological) والمكانية (أى فى المواضع الجغرافيةTopographical) ضئيل لديه عند مقارنة ذلك بالعدد الكبير من الوقائع التى يوردها (١٠٢).
وقد وجهت حملات النقد بصورة خاصة إلى أقسام معينة من رحلته كوصفه للقسطنطينية وحكاياته عن الصين ؛ أما عن الأولى فقد كان اضطراب التواريخ سببا فى حدوث بعض الخلط لديه ولكن على الرغم من هذا تم الاعتراف فى الأونة الأخيرة بأن وصفه للمدينة نفسها يتسم بطابع الصحة ولا يمكن