فنيا متماسكا لعله لم يعرف فى الأصل إطلاقا. ومن الواضح أن ابن بطوطة نفسه لم يكن ليستحى من الاعتراف بأنه قد نسى اسم موضع ما أو اسم شخص ، مثل ذلك القاضى الذى نزل عليه بالشام أو تلك المدينة التى مر عليها فى طريقه إلى تمبكتو (٩٩) ؛ وأغلب الظن أنه لم يدون مذكرات منظمة وإذا كان قد دون شيئا ما فلا ريب فى أنه قد أضاعه خلال تجواله أضف إلى هذا أنه لم يهدف إخراج صورة متكاملة الجوانب لوصف أسفاره بل اكتفى بأن يقص على سامعيه حوادث معينة وقطعا متفرقة منها. لذا فحين دعت الحاجة إلى الربط بينها فى رواية متتابعة فإن المحرر بذل جهدا ليس بالقليل ليخرج من القصة بأكثر مما استطاع المؤلف أن يتذكره ، سواء كان ذلك عن طريق توجيه الأسئلة أو ربما استحثه بوسائل أخرى. ولم يكن ابن جزى على معرفة بالبلاد التى تحدث عنها ابن بطوطة لذا فليس غريبا أن يقع فى أخطاء عديدة عندما حاول أن يجمع بين هذه القصص المتفرقة فى وحدة متماسكة ، ويصدق هذا بصورة خاصة على أفريقيا الشمالية عندما أخذ ابن بطوطة لأول مرة طريقه إلى مصر فدلائل الأحوال تشير إلى أن ابن بطوطة كان قد نسى وصف طريقه تماما وذلك لبعد الزمن الذى ينيف على ربع قرن ؛ ومن الملاحظ أن وصف هذا الطريق مختصر للغاية لدى مقارنته ببقية وصف الرحلة. أما الخلط الشديد المتعلق بوصف آسيا الصغرى (١٠٠) فيمكن رده إلى ابن جزى الذى حاول بلا شك أن يستخلص صورة متكاملة الجوانب بإزاء العدد الكبير من أسماء الأماكن التى يذكرها ابن بطوطة. وكان ابن بطوطة قد قطع على نفسه عهدا بألا يأخذ طريقا ما أكثر من مرة (١٠١) ومن ثم فإن تحديد طريق سيره بدقة يستلزم معرفة جيدة بالأقطار التى سلكها. وعلى نحو ما أراد المحرر فإن ابن بطوطة قد أسبغ على روايته فى بعض الأحايين دقة خيالية لا تمت للحقيقة بسبب وذلك فيما يتعلق بتحديده للمسافات والأماكن مما كان قد أسدل عليه الزمن ستار النسيان بالنسبة له ؛ كما أنه من الصعب مثلا التصديق بأن عددا من رحلاته الكبيرة قد بدأ على وجه التحديد فى غرة المحرم من كل عام.
ومن المحتمل أن ابن جزى لم يمس جوهر القصص نفسها لذا فلا يزال ينتظر إجابة شافية حتى الآن سؤال حائر هو إلى أى حد يمكن الاعتماد على صدق رواية ابن بطوطة حتى ولو وضعنا فى اعتبارنا مدى فعالية العنصر الذاتى (Subjective) فى هذا المجال. ولقد بدأ هذا التساؤل يأخذ بخناق ابن بطوطة منذ لحظة رجوعه إلى أرض الوطن تماما كما حدث مع ماركوبولو ، بل إنه يمكن استشفاف لون من الحذر حتى عند ابن جزى نفسه وذلك فى قوله «وأوردت جميع ما أورده من الحكايات والأخبار ولم أتعرض لبحث عن حقيقة ذلك ولا اختبار». ولقد سارت هذه الشكوك قدما تارة تفيض وطورا تغيض ولكنها لم تصل بالطبع فى الأدب العربى إلى مرتبة الحدة أو تثير مثل ذلك الاهتمام الذى ترجع صداه فى الأوساط العلمية الأوروبية. ولعله لم يكن من قبيل الصدفة المجردة أن يسير التأرجح بين اليقين والشك فى شأن ابن بطوطة بنفس التتابع الزمنى الذى ساره موقف العلماء