تكاد تكون أكثر آثار ذلك العهد أصالة فى محيط الأدب. وزيادة على هذا فإنه يمكن إلى حد ما القول بأن «صبح الأعشى» يختتم عصرا معينا فى تاريخ الأدب الجغرافى إذ أن عهد الجغرافيا العامة (General Geography) الذى بلغ أوجه فى نمط الكوزموغرافيات والموسوعات للقرنين الثالث عشر والرابع عشر قد انتهى وحل محله نمط الجغرافيا الإقليمية (Regional ـ Geography) ؛ كما يمكن أن نضيف إلى هذا أنه قد ظهرت مصنفات محلية باللغتين الفارسية والتركية (٧٧) كما حدث مثلا بإيران وآسيا الوسطى والهند ثم بالدولة العثمانية فيما بعد. أما نمط الرحلات فقد استمر حافلا ومزدهرا حتى النهاية ، وليس هذا فحسب بل إن مما يسترعى الانتباه حقا هو أن آخر رحالة كبير انتظم محيط رحلاته العالم الإسلامى بأجمعه إنما ينتمى إلى القرن الرابع عشر أيضا.
ذلكم هو ابن بطوطة المشهور وهو نفس ذلك الرحالة الذى كانت أسفاره تطالع بالمدارس الثانوية بالبلاد العربية إلى عهد قريب والذى يرّد المثقفون العرب حين التساؤل عنه باتسامة لا تخلو من بعض الاستخفاف ؛ وهو نفس ذلك الرحالة الذى لا يستغنى عن الرجوع إليه أى باحث يود الخوض فى تاريخ الأوردو الذهبى وآسيا الوسطى والذى رغما من هذا تقف رواياته عن الصين والهند فى مستو واحد مع «أسفار السندباد» و «عجائب الهند». ومهما اختلفت الآراء فيه فإن من المستحيل إنكار أنه كان آخر جغرافى عالمى من الناحية العملية ، أى أنه لم يكن نقالة اعتمد على كتب الغير بل كان رحالة انتظم محيط أسفاره عددا كبيرا من الأقطار. وقد جاوز تجواله مقدار مائة وخمس وسبعين ألف ميل (٧٨) ، فهو بهذا يعد منافسا خطيرا لمعاصره الأكبر منه سنا ماركوبولو البندقى (٧٩). ولعل المقارنة بين الاثنين قد بولغ فيها أحيانا ولو أنها لا تخلو من الطرافة فى بعض جوانبها فالصياغة الأدبية لكلا الرحلتين مثلا لا ترجع إلى صاحب الرحلة نفسه بل إلى شخص آخر ؛ كما أن كلا المصنفين يكمل أحدهما الآخر بالنسبة لمعلوماتنا عن آسيا فالرحالة البندقى عرف الشرق الأقصى خيرا مما عرفه المغربى ، وفى مقابل هذا فمن الطبيعى أن نجد أن هذا الأخير كان لديه إحساس ذاتى بظروف حضارة العالم الذى يصفه أكثر مما كان لدى البندقى. ومما يقرب بين الاثنين أنهما لا ينتميان فى المحيط الجغرافى إلى الجغرافيين العلماء ولو أنه يجب الاعتراف بأن وصف المواطن المسلم لخط سير رحلته أدعى إلى الثقة مما عليه الحال مع معاصره المسيحى. غير أن هذا يجب ألا ينسينا شطحاته ، فمما لا شك فيه أن وصفه «لأرض الظلمات» الواقعة خلف أراضى بلغار الفلجا إنما يرجع فيه إلى فكرة غير موثوق بها أو إلى مصدر أدبى أساء فهم روايته (٨٠) ؛ كما أن وصفه لبلاد طوالسى الواقعة فى مكان ما من كوشين صين Cochin ـ China يضم أساطير سمعها عن بلاد أخرى حتى اختلط الوصف لديه اختلاطا كليا. إلا أنه كلما تعرضت الأجزاء المختلفة من وصف رحلته لدراسة دقيقة مفصلة كلما زادت الثقة فى صدق روايته يوما عن آخر.
واسمه الكامل هو أبو عبد الله محمد بن عبد الله اللواتى الطنجى وتشير النسبة الأخيرة إلى علاقته بطنجة