الجغرافى ويساعد بذلك على تحديد تلك الآثار التى ظلت تتمتع بالحيوية فى العصر الذى عاش فيه المؤلف ؛ ولما لم يكن القلقشندى نفسه منقطعا للجغرافيا فإن هذا العرض يخلو من أهمية خاصة. وبالرغم من أن العمرى يحتل المكانة الأولى لديه (٧٠) إلا أنه لم يعتمد عليه وحده فى جمع مادته الضخمة ، فمن بين ممثلى الجيل «الأول» من الجغرافيين نلتقى فى «صبح الأعشى» بأسماء ابن خرداذبه وابن حوقل والمسعودى والهمدانى والمهلبى والسمعانى ؛ ومن بين ممثلى القرن «الفضى» بأسماء البكرى والإدريسى والغرناطى وابن سعيد وياقوت وأبى الفدا. وإلى جانب هؤلاء المؤلفين البارزين نلتقى بمروجى المادة الأسطورية مثل ابن وصيف شاه ؛ وإلى جانب مصنفات ممثلى الجغرافيا الوصفية نلتقى أيضا بمصنفات ممثلى الجغرافيا الرياضية ولكن بصورة أقل ، وعلى كل حال فإن القلقشندى كثيرا ما ينقل عن الزيجات المختلفة وعن «المجسطى» لبطلميوس ؛ ومن مراجعه الأساسية فى هذا المجال البيرونى (٧١) خاصة فى كتابه «القانون المسعودى». والقلقشندى يعتمد فى القسم الخاص بالجغرافيا الرياضية من كتابه اعتمادا كاملا على المذاهب القديمة ويخضع للنظريات الكوزموغرافية لبطلميوس بحيث ينعكس جيدا من مثاله كيف كانت الدوائر الكتابية فى القاهرة تتأرجح بين النظريات العلمية القديمة الموجودة فى بطون الكتب وبين الوقائع الجغرافية المحدثة (٧٢) التى كانت معروفة لديهم جيدا والتى وكدتها آنذاك التجربة المباشرة لمختلف الشعوب. وهكذا يرفع رأسه مرة أخرى ذلك الفاصل الذى تحدثنا عنه أكثر من مرة والذى يفصل بين النظرية والواقع فى الأدب الجغرافى.
ويجب ألا يغيب عن ذهننا أن الأهمية الكبرى فى المادة الجغرافية لدى القلقشندى تحتلها معلوماته من تلك الأقطار التى عرفها معرفة مباشرة ، وقد رأينا مثال ذلك عند الكلام على مصر والشام. ولا تقل أهمية عن ذلك تلك المعلومات التى يوردها عن البلاد التى ربطتها صلات دبلوماسية منتظمة كانت أم متقطعة بدولة المماليك. وفيما يتعلق بممالك النصارى فقد تعرض الأب لامنزLammens لتحليل مادته فى عدد من المقالات بنفس الطريقة التى حلل بها تيزنهاوزن مادته عن الأوردو الذهبى وجورجيا (٧٣) أو كما حللها كانارCanard بالنسبة لبيزنطة (٧٤). غير أنه حتى بالنسبة للبلاد التى لم يكن لديه عنها معلومات باستثناء المادة الأدبية وقصص الرحالة فإنه يجب ألا نطرح سلفا هذه المادة بوصفها خالية من كل قيمة ؛ وخير مثال لهذا ما كتبه عن الهند فإن المصادر التى اعتمد عليها فى هذا الصدد (٧٥) ابتداء من العمرى إما أن تكون قد طبعت أو عرفت فى مخطوطاتها بحيث أضحت مادته عنها ليست من الأهمية فى المكان الذى كان يعتقد من قبل. وعلى الرغم من كل هذا فإن القلقشندى قد وفق فى تقديم عرض مزود بالتفاصيل يمكن أن يستدل منه على أنه كان للعرب فى ذلك العصر فكرة لا بأس بها عن الهند (٧٦).
كل هذا يوكد لنا صحة النتيجة التى وصلنا إليها من قبل وهى أن مصنف القلقشندى يمثل ظاهرة مبرزة فريدة فى نوعها فى مجال الأدب الجغرافى أيضا ويختتم بجدارة سلسلة موسوعات عهد المماليك التى