يتعلق بشمال الصين وحدها معلومات جمة مروية بألفاظ عدد ممن التقى بهم (٥٦) ؛ وكان هذا الضرب من الرحالة ينتمى إلى مجموعتين من الناس هما التجار ثم الفقهاء الذين ساقهم إلى تلك الجهات فى أغلب الظن حاجة الأقليات المسلمة المهاجرة إلى قضاة وأئمة. وكان من بين هؤلاء الرحالة عدد من أهل العراق وإيران وما وراء النهر ؛ وتوكد جميع قصصهم أن الصين قد فتحت أبوابها فى عهد المغول للتجار ولمن دفع بهم حب الاستطلاع إلى الضرب فى الأرض (٥٧). وكان التجار العرب يحملون إليها الخيل وطيور الصيد والحلى الثمينة بل وحتى الآنية المطلية بالميناء من حلب (٥٨) ؛ وتمس معلوماتهم (٥٩) مختلف أوجه الحياة فى الصين ولكن ليس فى عرض منتظم إلا أنه يتميز على الأقل بالإحاطة والشمول. وقد اهتموا اهتماما خاصا بوصف نظام الإدارة وطرق المواصلات والتجارة بالطبع وبما يتصل بذلك من حرف ومهن ؛ ولم تقف معرفتهم بحياة أهل الصين عند حد الجوانب المتعلقة بالنظام النقدى وحده بل تجاوزته إلى موضوعات شتى كمهارة الصينيين فى عمل الأسنان الصناعية.
هذان المثالان من الغرب والشرق يقفان دليلا على الأهمية الكبرى لموسوعة العمرى كمصدر لدراسة ذلك العصر ؛ وليس ثمة حاجة إلى القول بأنها لا تقل أهمية عن بقية موسوعات عهد المماليك بوصفها مصدرا من مصادر تاريخ الأوردو الذهبى ؛ إلا أنه تجدر الإشارة فى هذا المقام ولو عرضا إلى أن ترجمة تيزنهاوزن لمادته عن الأوردو الذهبى وما يرتبط بذلك من استنتاجات يتطلب الآن إعادة النظر فى نقاط معينة وتحقيق النصوص من جديد استنادا على المصادر التى تم الكشف عنها منذ ذلك الوقت وعلى الطبعات العلمية التى أصبحت فى متناول الأيدى فى الستين عاما التى انقضت على ظهور هذا الأثر الذى يمثل فاتحة عهد جديد بالنسبة لدراسة تاريخ تلك الدولة. وإذا كان هذا هو مبلغ أهمية موسوعة العمرى بالنسبة للبلدان التى لم يزرها بنفسه فحرى أن تزداد قيمتها بالنسبة لبلاد دولة المماليك أى مصر والشام اللتين عرفهما المؤلف عن كتب ؛ وفى الواقع أن كلا مصنفيه يعدان من أهم آثار عصرهما فى هذا المجال. والعمرى رغما من اتباعه للمذهب التاريخى التقليدى عرف كيف يحتفظ بشخصيته كمؤلف ، وقد لقيت مصنفاته تقديرا عاليا من الأجيال التالية التى تدين له بالكثير فى سبيل تطوير هذا الاتجاه.
ويرتبط بالعمرى ارتباطا مباشرا مؤلف آخر موسوعة كبرى لعصر المماليك وهو القلقشندى ؛ ورغما من أن نشاطه يدخل فى نطاق بداية القرن الرابع عشر إلا أن الفرصة مواتية للكلام عنه فى هذه اللحظة. والقلقشندى اسم معروف فى ميدان التأليف التاريخى بمصر الإسلامية بل وفى العالم الإسلامى بأجمعه لذلك العصر ؛ وإلى جانب معرفة العرب الجيدة به فقد عرفه جيدا أيضا العلماء الأوروبيون منذ القرن التاسع عشر إلا أنه لم يكن من المستطاع إعطاء فكرة عن مجهوده العلمى بصورة شاملة إلا بعد ظهور كتابه فى طبعة مرضية تشمل أربعة عشر جزءا وذلك فى الفترة بين عامى ١٩١٣ و ١٩٢٠ ؛ ويرجع الفضل فى ظهور هذه الطبعة إلى مجهود ذلك العلامة المصرى الذى لم يعرف الكلل إلى نفسه سبيلا وهو أحمد