عام ٧١٥ ه ـ ١٣١٥ اشترك أبو الفدا فى حملة أخرى على آسيا الصغرى. غير أن هذه الحياة النشطة الدائبة الحركة لم تحل دون اشتغاله بالأدب فإلى هذه الفترة بالذات يرجع تدوين القسم الأكبر من تاريخه الذى ظل يضيف إليه عاما بعد عام حتى سنة ٧٢٩ ه ـ ١٣٢٩ ؛ وفى الوقت نفسه وذلك عندما كان بحماة فى عام ٧١٧ ه ـ ١٣١٧ اشتغل أيضا فى تأليف كتابه فى «الجغرافيا». وقد كان التوفيق حليفه دواما فى خططه السياسية فتم تنصيبه للمرة الثانية فى عام ٧٢٠ ه ـ ١٣٢٠ أميرا على حماة وأصبحت الإمارة وراثية فى بيته ولقب بالملك المؤيد. وفى رحلة له إلى مصر زار الإسكندرية ونال شرف حضور استقبال سفراء نادرين مثل سفير خايمه Jaime (يعقوب) الثانى ملك أراغون Aragon وسفير ايلخان فارس ؛ وفى أثناء اصطحابه للسلطان فى تجواله بمصر العليا بلغ دندرة. وختم أيام حياته بسلام فى حماة وذلك فى أكتوبر سنة ٧٣٢ ه ـ ١٣٣١ بعد أن تنبأ كما تزعم الأسطورة بأنه لن يتجاوز الستين شأنه فى هذا شأن جميع أفراد أسرته ؛ بل إن نسله نفسهم لم يكتب لهم البقاء طويلا فى عالم الأحياء فقد ورث ابنه بعده سلطان الأسرة بحماة وخلعت عليه الإمارة من سلطان مصر ولكن بعد وفاته فى عام ٧٤٢ ه ـ ١٣٤١ لم يستطع الحفيد أن يرتفع إلى مستوى الأحداث المعقدة لذلك العصر وقنع بالاحتفاظ بمظهر الإمارة إلى وفاته بحماة فى عام ٧٥٨ ه ـ ١٣٥٧ فانقرض بذلك بيت أبى الفدا (٥٣). ولا تزال مقبرة أبى الفدا حتى يومنا هذا بمدينة حماه قرب المسجد المعروف «بمسجد الحيايا» الذى بناه أبو الفدا نفسه كما يمكن الاستدال من نقش موجود بالمسجد حاليا يرجع تاريخه إلى عام ٧٢٧ ه ـ ١٣٢٧ (٥٤) ، وعلى مقربة من منارة المسجد أمر أبو الفدا بتشييد «تربة» له زودها بكفن ، وإذا لم يكن ثمة خطأ قد وجد سبيله إلى تاريخ النقش فإن أبا الفدا يكون بذلك قد أعد العدة لوفاته قبل أربعة أعوام من حدوث ذلك ، أى عندما بنى مسجده فى عام ٧٢٧ ه ـ ١٣٢٧ (٥٥). وقد حفظت لنا الأقدار أثرا فنيا كان يمتلكه أبو الفدا ويمثله كاتبا أكثر مما يشير إليه كحاكم ، هو عبارة عن «قلمدان» ، أى وعاء للأقلام ، مصنوع من البرونز ونقشت عليه عبارة مناسبة وهو يعد أثرا طريفا فى الفن الإسلامى (٥٦).
وكانت حماه فى عهد أبى الفدا مركزا للأدب والأدباء نلتقى فيها بعدد من الشعراء الذين تنافسوا فى مدح الأمير كالشاعر المشهور ابن نباته ، كما نلتقى فيها أيضا بمواطنين من أهل المدينة نفسها كالشاعر الشعبى عمر المهار (توفى حوالى عام ٧١٠ ه ـ ١٣١٠) (٥٧). ولم يكن أبو الفدا نفسه غريبا على الشعر ، كما وأنه ضرب بسهم وافر فى كثير من العلوم كالفلك والطب والنبات إلا أن شهرته العلمية تعتمد أساسا على مصنفيه فى التاريخ والجغرافيا.
وأبو الفدا وإن كان معاصرا لماركو بولوMarco Polo (١٢٥٦ ـ ١٣٢٣) إلا أنه لم يكن رحالة ، فهو لم يعرف غير الشام والبلاد المجاورة لها كفلسطين وبلاد العرب ومصر والجزء الشرقى من آسيا الصغرى (١)
__________________
(*) أى الأفاعى ، وهو جمع عامى لحية كما يستعمله أهل تلك النواحى. (المترجم)